المصدر: Getty
مقال

شمال شرقي سوريا بعد الانسحاب الأمريكي

على الرغم من التاريخ الطويل للأعمال العدائية بينها، قد تضطر القوى القبلية الكردية والعربية في شمالي شرقي البلاد إلى السعي إلى تسوية سياسية مع النظام السوري.

 محمد حسان
نشرت في ٢٧ فبراير ٢٠٢٤

نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، في كانون الثاني/يناير الماضي، عن مصادر رفيعة المستوى في البيت الأبيض ووزارتي الدفاع والخارجية قولها إن الولايات المتحدة تخطط للانسحاب من سوريا، وإنهاء وجودها العسكري، الذي لم يعد ضرورياً، وتبحث بشكل مكثف توقيت وكيفية الانسحاب، مؤكدة أنها "لم تعد مهتمة بالبقاء في سورية".

رغم أن الحديث عن الانسحاب لم يصدر بشكل رسمي معلن، لكنه يبقى وارداً ضمن السياسة الأمريكية، ما يترك منطقة شمال شرقي سوريا، ذات الطبيعة القبلية العشائرية، والتي تمارس الإدارة الذاتية وجناحها العسكري قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، أمام مقاربات عدة تحدد مصير المنطقة وشكلها مستقبلاً. لكن أقرب السيناريوهات للحدوث، هو لجوء الإدارة الذاتية للمنطقة إلى النظام السوري وحليفته روسيا، من أجل التوصل إلى اتفاق سياسي يسمح بعودة النظام السوري إلى تلك المناطق، مقابل بعض الحقوق السياسية والإدارية في المنطقة، مثل استمرار الإدارة الذاتية، وبعض الحقوق الثقافية المتعلقة باللغة الكردية والطابع الثقافي الخاص بالمجتمع الكردي.

يعتبر لجوء الإدارة الذاتية للنظام السوري وحليفته روسيا خيارا استراتيجيا في عدة مراحل زمنية، ففي عام 2019، ونتيجة العمليات العسكرية التركية التي تستهدف مناطق الإدارة الذاتية، قامت الأخيرة بالانسحاب من ريف الرقة الجنوبي وريف محافظة الحسكة ومدينة كوباني "عين العرب"، بعد عملية "نبع السلام"، وسمحت لقوات النظام السوري والقوات الروسية بالانتشار في تلك المناطق، وتكرر الأمر عام 2022، في ريف مدينة منبج شرق محافظة حلب، عقب الانسحاب الأمريكي من هناك.

النظام السوري الذي رفض مراراً وتكراراً أي مطالب للإدارة الذاتية، ويطالبها بتسليم مناطق سيطرتها للجيش بدون أي شروط، يراهن على عامل الوقت وعلى وجود الإدارة الذاتية للمنطقة تحت ضغط العمليات العسكرية البرية والجوية التركية، التي تستهدف قواتها ومراكز إدارتها، ورغم هذا فإن الإدارة الذاتية مستعدة لتقديم جميع التنازلات للنظام السوري، حتى بدون الحصول على أي مكسب سياسي، مدفوعة بتخوف من دخول تركيا إلى مناطق ذات غالبية كردية، كما حصل في مدينة عفرين سابقاً.

خيار العشائر العربية التي تشكل غالبية سكان مناطق شمال شرقي سوريا خاصة محافظتي الرقة ودير الزور وأجزاء من ريف محافظة الحسكة، لا يختلف عن موقف الإدارة الذاتية، رغم موقفها المعادي للنظام السوري بالمجمل، حيث تميل تلك العشائر في حال الانسحاب الأمريكي إلى عدم المواجهة و الوصول إلى تسوية مع النظام السوري وروسيا، لعدم توفر أي خيار آخر ممكن سوى هذا الخيار، أما خيار تنظيم الدولة الإسلامية فهو مستبعد رغم نشاط التنظيم هناك، لسببين، الأول أن المجتمع القبلي لا يجده خيارا جيدا للمنطقة، وأيضاً بسبب ضعف التنظيم وعدم قدرته على مواجهة قوى النظام وروسيا.

في عام 2019 عاشت العشائر العربية حالة مشابهة، بعد الانسحاب الأمريكي وقوات "قسد" من ريف مدينة منبج ودخول النظام السوري وروسيا، وكان الحديث عن انسحاب أمريكي كامل من سوريا، حيث بدأت تلك العشائر المفاوضات مع روسيا للوصول لتسوية، وطالبت العشائر وقتها الحصول على تسوية مشابهة لما حدث في محافظة درعا بين روسيا وفصائل المعارضة هناك، لكن العشائر أوقفت عمليات التفاوض بسبب بقاء القوات الأمريكية في المنطقة.

لجوء المجتمع القبلي إلى التسوية مع النظام وروسيا في حال الانسحاب الأمريكي، يأتي لعدة أسباب، أولها عدم قدرته على المواجهة العسكرية، لعدم تكافؤ قوى الطرفين، خاصة أن العشائر فقدت القسم الأعظم من أسلحتها خلال فترة سيطرة تنظيم الدولة على المنطقة، وأيضا خلال مواجهاتها مع الإدارة الذاتية، كما حدث في ثورة العشائر الأخيرة في دير الزور 2023.

السبب الثاني هو افتقار الكتلة العشائرية الموجودة في المنطقة إلى القيادات السياسية غير التقليدية، بسبب طردها أثناء السيطرة المتعاقبة لـتنظيم الدولة و"قسد"، ما تسبب بعودة الواجهات التقليدية لشيوخ العشيرة، ممن يميل سلوكهم مع القوى الخارجية غير القبلية إلى الحلول السلمية وعدم المواجهة، إضافة لوجود كبار زعماء القبائل في تلك المناطق حالياً الى جانب النظام السوري، مثل نواف البشير شيخ قبيلة البقارة، وإبراهيم الهفل شيخ قبيلة العقيدات.

ستجبر الخيارات المحدودة المتوفرة للإدارة الذاتية والعشائر العربية في شمال شرقي سوريا على التفاوض مع الروس والنظام لإيجاد الحل في حال الانسحاب الأمريكي، لكنها قد تناور ببعض الأمور كحمل السلاح والضغوط السياسية عبر حلفائها خاصة الأمريكان منهم، في محاولة لرفع سقف مطالبها وتحسين شروط استسلامها.

محمد حسان، باحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط وطالب ماجستير في قسم العلاقات الدولية في المدرسة العليا للصحافة في باريس. لمتابعته عبر أكس @mohammed_nomad.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.