بعد الانتخابات التي شهدتها تونس لاختيار المجلس التأسيسي المؤلَّف من 217 عضواً، في 23 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تتركّز الأنظار على عملية إعداد الدستور الجديد الموكَلة إلى المجلس المنتخب. فهل سينجح الأخير في وضع دستور يحظى بموافقة الجميع؟ هل سيعمد إلى إصلاح الاقتصاد؟ هل سيعالج مشاكل القطاع الأمني ويعيد تنظيم القضاء؟ باختصار، هل سيمهّد الطريق لإصلاح المؤسسات بشكل سلس؟
في الواقع، شكّلت تركيبة الحكومة الجديدة مؤشّراً أوّل عن المسار الذي ستسلكه هذه العملية. فقد اختار حزب النهضة، بعد فوزه بتسعين مقعداً من أصل 217 في المجلس التأسيسي، تشكيل "حكومة وحدة" وقدّم عروضاً إلى لأحزاب الأخرى بحسب النتائج التي حقّقتها في الانتخابات. قبِل حزبان كبيران، وهما المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتّل، بما عرضه عليهما النهضة. ويزعم حزب التكتّل الوسطي أنه قبِل العرض من أجل "المصلحة الوطنية" معتبراً أن حكومة الوحدة تملك ربما حظوظاً أفضل لمواجهة التحدّيات الصعبة التي تطرحها المرحلة الانتقالية (وأكبرها، تشكيل حكومة قادرة على العمل). وقد رفضت عدداً من الأحزاب السياسية التقدّمية التي تختلف عقائدياً مع النهضة، مثل الحزب الديمقراطي التقدّمي، والقطب الديمقراطي الحداثي، وآفاق تونس، وحزب العمّال الشيوعي التونسي، وسواها من الأحزاب، العرض مفضِّلةً البقاء في المعارضة. والملفت في هذا الإطار، هو عدم تقديم أيّ عرض إلى حزب العريضة الشعبية،(الذي فاجأ المراقبين بالنتائج الجيّدة التي حقّقها في الانتخابات)، بزعامة رجل الأعمال التونسي الثري محمد الهاشمي الحامدي، وذلك على الأرجح، بسبب طبيعتها الائتلافية غير الرسمية وما يُحكى عن روابطها مع بقايا النظام القديم.
وقد توصّل الائتلاف المكوَّن من الأحزاب الثلاثة، والذي حصل على أغلبية مريحة من المقاعد، تحديداً 139 مقعداً في المجلس التأسيسي، إلى اتفاق يُتوقَّع بموجبه أن يتولّى نائب رئيس النهضة، حمادي الجبالي، رئاسة الوزراء، فيما يتسلّم الناشط الحقوقي المخضرم منصف المرزوقي الذي يرأس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، رئاسة البلاد. ويتولّى رئيس حزب التكتّل، مصطفى بن جعفر، رئاسة المجلس التأسيسي.
تُقدِّم التحالفات والتحالفات المضادّة في بداية مرحلة مابعد الانتخابات مؤشّراً عن الديناميكيات الجديدة التي ستظهر إلى الواجهة مع انطلاق النقاشات حول الدستور. وسوف يتوقّف مصير قوانين كثيرة على مدى قدرة أعضاء الائتلاف الثلاثي على التوصّل إلى تسوية، ما سيسلّط الضوء على صعوبة الفصل بين الأجندات قصيرة الأمد للأحزاب السياسية، من جهة، ومهمة إعداد الدستور المناطة بالمجلس التأسيسي، من جهة أخرى.
انعقد المجلس التأسيسي يوم الأربعاء الواقع في السابع من كانون الأول/ديسمبر من العام 2011، لمناقشة ما سمّته الصحافة التونسية "دستوراً مصغّراً" وبدء عملية التصويت عليه. والمقصود بذلك، التشريعات المتعلّقة بالإجراءات والصلاحيات المؤسّساتيّة التي ستُطبَّق بانتظار إعداد دستور دائم والمصادقة عليه. ومن المواضيع الخلافية التي حُسِم النقاش فيها حتى الآن، الصلاحيات الجديدة للرئيس ورئيس الوزراء وتوازن القوى بينهما. فالمقترحات التي تقدّم بها حزب النهضة في البداية، جرّدت الرئاسة من أي سلطة حقيقية. لكن بعد المعارضة الشديدة التي أبدتها الأحزاب الأخرى (بما في ذلك الحزبان المنضويان في الائتلاف) والتي رفضت أن تكون "الرئاسة ضعيفة"، سوف يستعيد الرئيس العديد من الصلاحيات وإن كانت تبقى دون صلاحيات رئيس الوزراء، وهي: تحديد السياسة الخارجية لتونس بالتشاور مع رئيس الوزراء؛ وتعيين رئيس الحكومة؛ وتوقيع القوانين التي يقرّها المجلس التأسيسي وإبرامها؛ وقيادة القوات المسلّحة. كما صادق المجلس التأسيسي وسط أجواء مشحونة على الفصل السابع من مشروع القانون التأسيسي الذي ينص على أنه إذا طرأ "ظرف استثنائي" يمنع سريان السلطات ويجعل من المتعذر على المجلسي التأسيسي مواصلة عمله العادي، فله بأغلبية أعضائه، أن يصرح بتحقق ذلك الظرف ويفوض اختصاصه التشريعي أو جزءاً منه لرئيس المجلس الوطني التأسيسي ورئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ويمارس الرؤساء الثلاثة الاختصاص المفوّض إليهم عبر إصدار مراسيم بالتوافق بينهم. ودعا عدد من النواب رئيس اللجنة إلى رفع اللبس والغموض حول عبارة “ظرف استثنائي” وأشار اياد الدهماني من الحزب الديمقراطي التقدمي أن الغموض قد يؤدي الى ديكتاتورية جديدة.
السمة الأخرى الهامّة في عمل المجلس التأسيسي، هي تحديد أهدافه الفعلية التي لاتزال مبهمة (ما عدا وضع مسوّدة الدستور). فنظراً إلى الفراغ التشريعي الذي تعاني منه البلاد بانتظار الانتخابات العامّة، سوف تتوسّع مهمّة المجلس مما يُتيح له القدرة على التصرّف مثل برلمان عادي، أي مناقشة موازنة العام 2012 وإقرارها، ومراجعة القوانين السابقة وإقرار قوانين جديدة، وكذلك استجواب الأعضاء السابقين والحاليين في الحكومة. ويبدو أعضاء المجلس التأسيسي، على أتم الاستعداد للاضطلاع بهذا الدور الجديد الذي من شأنه أن يحوّل المجلس إلى هيئة تشريعية كاملة الصلاحيات. لكن قد تؤدّي هذه الامتيازات الجديدة، في أفضل الأحوال، إلى التلهّي عن إعداد مسوّدة الدستور، وفي أسوأ الأحوال، إلى خلافات اديولوجية تنطلق من مصالح فئوية وتتسرّب إلى الائتلافات المختلفة لدى انصرافها من جديد إلى المهمّة الأساسية، أي إعداد مسوّدة الدستور. وقد يحول ذلك دون أن يتمكّن المجلس من الانتهاء من وضع الدستور في غضون عام واحد بحسب المهلة التي حُدِّدَت لإنجازه، وبالتالي لن يتمكّن من تنظيم الانتخابات الرئاسية والتشريعية في موعدها. أمّا في الواقع، فتُحمّل الأحزاب المعارضة بدعم من الرأي العام، الائتلاف الأكبر في المجلس التأسيسي مسؤولية احترام هذا الالتزام الذي جرى الاتّفاق عليه قبل الانتخابات في إطار وثيقة "إعلان المسار الانتقالي". وقد صوّت يوم الأربعاء، 153 عضواً ضد اقتراح لتمديد تفويض المجلس أكثر من عام واحد (39 صوت مع الاقتراح، وامتنع الباقون عن التصويت).
فضلاً عن ذلك، سوف يؤثّر النظام الداخلي للمجلس التأسيسي في قدرته على الوفاء بوعوده. فآلية إعداد الدستور الدائم لاتزال قيد النقاش: هل يجب أن يشارك فيها فقط أعضاء المجلس التأسيسي؟ وفي هذه الحالة هل ينعقد المجلس في جلسات عامّة، أم تنبثق عنه لجان مكلَّفة وضع مسوّدة الدستور؟ هل يدعمه في مهمّته هذه فريق من الخبراء القانونيين الذين تُسنَد إليهم ترجمة نقاشات المجلس إلى أحكام قانونية؟ لقد قرّر أعضاء المجلس أن تتم المصادقة على المواد الدستورية بأغلبية النصف زائد واحد في كل القرارات. وقد كان الخيار البديل اعتماد النصف زائد واحد لدى التصويت على شؤون الدولة، والثلثين زائد واحد لدى التصويت على المواد الدستورية. صحيح أن الخيارَين يتيحان لحزب أو ائتلاف أكثري فرض آرائه، لكن لابد من الإشارة إلى أن حزب التكتّل والمؤتمر من أجل الجمهورية دخلا في سجال مع حزب النهضة (وعارضاه) حول صيغة النظام الداخلي للمجلس. ولذلك، يرتدي تعريف "الأكثرية" أهمّية كبيرة نظراً إلى أنه يُتوقَّع أن يعارض كلاهما النهضة في مسائل أخرى.
وقد تم الاتفاق أيضاً على الآلية التي ستُعتمَد للمصادقة النهائية على الدستور: سوف يجري إقراره بأغلبية الثلثين، وإذا لم يتم الإقرار بعد جولتَين، يُحال إلى الاستفتاء الشعبي. لكن خارج المجلس التأسيسي، قد يجري استنهاض الرأي العام، خلال العام المقبل، للضغط بهدف فرض إجراء استفتاء شعبي للتصويت على المسوّدة النهائية بغض النظر عن نتائج التصويت داخل المجلس. فمن شأن الاستفتاء أن يعزّز شرعية الدستور ويولّد لدى جميع التونسيين شعوراً بأنهم "يمتلكونه" فعلاً.
أما في ما يتعلّق بمضمون الدستور، فسوف تواجه الائتلافات المختلفة السؤال الجوهري: أيّ نموذج عن تونس سيجسّد الدستور؟ تتباين الآراء حول مستقبل البلاد بين المحافظين – النهضة المتحالف مع المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتّل– واتحاد الأحزاب التقدّمية (أو بالأحرى "الأقل محافظة"، وهي الحزب الديمقراطي التقدّمي والقطب الديمقراطي الحداثي وحزب العمّال الشيوعي التونسي وآفاق تونس). فالمحافظون يؤيّدون مقاربة أكثر تحفظاً، وذلك من خلال خطاب مزدوج يتبنّون فيه القيم الإسلامية التقليدية مقرونةً بـ"مكاسب الحداثة" (إنما مع سيطرة الأولى على الثانية)، في حين يتطلّع الآخرون إلى بناء مستقبل قوامه قيم الانفتاح والحرّيات الشخصية. من هنا، سوف تكون هاتان المقاربتان المتعارضتان في صلب النقاش لدى محاولة إعداد مسوّدة الدستور، ولاسيما الفصول المتعلّقة بالحرّيات الفردية (المقاربة المحافظة في مواجهة المقاربة التقدّمية)، وفصل السلطات (تركيز السلطات في مقابل توزيع السلطات على ثلاثة فروع)، ودور الدولة (تدخّل الدولة في الميدان الخاص/الأخلاقي في مقابل الدولة كضامنة للحرّيات). لذا، هل يجوز أن يحسم منطق الأكثرية والأقلّية هذه الازدواجية؟ إذا أُخِذ بهذا المنطق، فقد يُثير امتعاض بعض شرائح المجتمع ولاسيما مؤيّدي التقدّميين الذين خسروا في الانتخابات. أم ينبغي على كل طرف في المشهد السياسي السعي إلى استيعاب الآخر والتوصّل إلى إجماع عملي يتشارك فيه الجميع؟ يقتضي ذلك من الأغلبية العمل على استيعاب الأقلية وإشراكها على مختلف الأصعدة، وذلك من خلال إقرار القوانين بالأغلبية الموصوفة أو تقاسم رئاسات اللجان المختلفة في المجلس التأسيسي. كما يجب ألا يغيب عن بال أعضاء الأكثرية في المجلس التأسيسي، أنهم في صدد وضع دستور لجميع التونسيين وليس تطبيق برنامج تشريعي لأربع أو خمس سنوات.
أخيراً، من شأن فاعلين آخرين – الإعلام والمجتمع الأهلي والأحزاب السياسية غير الممثَّلة في المجلس التأسيسي– أن يؤدّوا دوراً في هذه العملية. حاليّاً، يجب مأسسة نموذج المشاركة الذي طبع الأشهر التسعة الأولى من المرحلة الانتقالية، حيث وُضِعت مجموعة من القوانين الجديدة التي تنظّم الأحزاب السياسية والإعلام والجمعيات الأهلية. ولا بد من الإفساح في المجال أمام أصحاب الخبرات كي يُقدِّموا المشورة اللازمة، والسماح للجمهور الأوسع بالمشاركة في هذه الآلية (طوال عملية إعداد الدستور وكذلك في المصادقة النهائية عليه) من أجل تعزيز الشعور لدى الناس بأنهم يمتلكون فعلاً هذه الوثيقة المهمة التي ستوجّه الحياة السياسية للتونسيين في العقود المقبلة. وما الاحتجاجات الراهنة أمام مبنى المجلس التأسيسي سوى دليل على توق الناس إلى المشاركة في هذه العملية.
أمين غالي مدير البرامج في مركز الكواكبي للتحوّلات الديمقراطية في تونس، يتركّز عمله حول مسائل الديمقراطية والإصلاح والتحوّلات في المنطقة العربية. عضو في اللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق حول الفساد في تونس.