فيما تضرب جائحة كورونا العراق، تتخبط الحكومة العراقية في محاولتها التصدي للوباء المتفشي. وفي الوقت نفسه، تحاول الحكومة سد العجز البالغة قيمته 40 مليار دولار أميركي في موازنة الدولة بسبب الهبوط الشديد في أسعار النفط، والذي تشير التقديرات إلى أنه أفضى إلى تراجع إيرادات الحكومة إلى النصف. وفيما تحتل التحديات الناجمة عن الوباء وعن الأوضاع الاقتصادية صدارة الأولويات بالنسبة إلى الحكومة العراقية، تواجه البلاد خطر انعدام الأمن الغذائي. وما يزيد من حدّة المشكلة أن المؤسسات الحكومية عفا عليها الزمن وتخوض منافسة في ما بينها، وتعاني من نقص التمويل وغياب الكفاءة ومن التعقيدات بسبب البيروقراطية، ولذلك تحتاج الحكومة العراقية إلى إصلاح سريع على مستوى المؤسسات والسياسات فضلاً عن إعادة تنظيم أنظمة شبكة الأمان من أجل الاستجابة لمخاطر انعدام الأمن الغذائي.
يرزح العراق تحت وطأة التحديات البنيوية والناشئة التي عرقلت إنتاجه الغذائي على مر السنين. وقد سجّلت أعداد السكان في البلاد زيادة كبيرة من 23.5 مليون نسمة في عام 2000 إلى نحو 39 مليون نسمة في عام 2019، ما يعني زيادة بنسبة 66 في المئة في غضون 20 عاماً. وتبقى الإمدادات الغذائية، المنتَجة محلياً والمستوردة، دون القدرة على مواكبة النمو السكاني. وتزداد هذه المشكلة تفاقماً بسبب الاضطرابات السياسية وغياب الاستقرار، والنزاعات والحروب الدورية، والفساد وسوء إدارة موارد الدولة. وقد ازدادت الإمدادات الغذائية من 13.8 مليون طن في عام 2000 إلى 20 مليون طن في عام 2019 بحسب التقديرات، أي بنسبة 44 في المئة.
وفي الوقت نفسه، ازدادت أعداد السكان في المدن العراقية بمعدل الضعف تقريباً خلال العقدَين المنصرمين، لا سيما بسبب النزوح من الأرياف بحثاً عن عمل. فقد كان للتغير المناخي أثرٌ سلبي على المجتمعات الزراعية. وعلى وجه الخصوص، أدّى تراجع الإمدادات المائية في نهرَي دجلة والفرات وارتفاع نسبة الملوحة في سطح الماء الجوفي إلى ازدياد التصحر. وتزداد هذه المشكلات حدة بسبب الانهيار الاقتصادي – الذي بدأ مع العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة وتفاقمَ خلال انهيار مؤسسات الدولة في أعقاب الاجتياح الأميركي في عام 2003 – والنزاعات والحروب المتتالية. فالحصيلة الاقتصادية والسياسية لجولات النزاع – بدءاً من حرب الخليج ومروراً بالفوضى التي أحدثتها الدولة الإسلامية في المحافظات التي تؤمّن السلة الغذائية العراقية – وموجات النزوح البشري عاثت خراباً في المنظومة الغذائية العراقية على مستوى الإنتاج المحلي وقدرة البلاد على شراء المواد الغذائية. وجاءت الجائحة لتلقي بضغوط إضافية على المنظومة الغذائية الهشّة، فأحدثت خللاً في سلاسل الإمدادات الغذائية، وتسببت بزيادة التكاليف الغذائية، وتراجع القدرة الشرائية للأسر العراقية مع ازدياد نسبة الفقر في أوساط العراقيين.
اليوم، تعاني المؤسسات التي هي في صلب المنظومة الغذائية العراقية من سوء الفهم والإهمال على نحو مستمر، نظراً إلى التدهور المتواصل في الدولة العراقية. وقد وُضِع إصلاح السياسات والمؤسسات – لا سيما في القطاعَين الزراعي والغذائي – على الرف مع إعطاء الحكومات العراقية المتعاقبة والمجتمع الدولي الأولوية للمساعدات الغذائية والزراعية رداً على الأزمات والتحديات التي تواجهها البلاد. ولكن غالب الظن أن العراق سوف يجد صعوبة في التخفيف من تأثيرات الأزمات الراهنة على الأمن الغذائي إلا إذا قام بإصلاح الشبكة المعقدة من المؤسسات المعنية بإنتاج المواد الغذائية وتوزيعها، وتمكين المنظمات الحكومية ودمجها، وإصلاح البيئة المؤسسية لإنتاج المواد الغذائية.
في العراق، تتدخل الدولة في كل خطوة من خطوات سلسلة القيمة الغذائية. فقد فرضت الدولة العراقية على مواطنيها الاعتماد على الحكومة، بدءاً من المرحلة التي تسبق زراعة البذور وصولاً إلى تأمين الطعام على مائدة كل مواطن عراقي، وذلك من خلال التدخل والانخراط المستمرَّين من جانب الدولة. وهذا مشابه لما يجري في بلدان عربية أخرى عُرِفت على مر تاريخها بنظامها الاشتراكي، مثل مصر وسورية. وفي مجال إنتاج المواد الغذائية، تُقدّم الشركات المملوكة من الدولة والخاضعة لسلطة وزارة الزراعة الدعم للمزارعين بدءاً من تحضير الأراضي وصولاً إلى حصاد المحصول من خلال تأمين الأدوات والآلات والبذور والأسمدة والمبيدات بأسعار مخفَّضة أو مجاناً. وتؤمّن وزارة الموارد المائية ووزارة المالية أيضاً المياه والري من دون كلفة تقريباً، وتقدّمان الدعم المالي للمزارعين من خلال القروض ذات الفوائد المنخفضة، والتي لا يُعاد تسديدها في معظم الأحيان. ثم تعمد الشركات المملوكة من الدولة، تحت إدارة وزارتَي التجارة والصناعة، إلى تخزين المحاصيل الزراعية للمزارعين العراقيين أو شرائها، ومعالجتها وتوزيعها في الأسواق. وتستخدم هذه الشركات برامج شبكات الأمان الاجتماعي، مثل نظام التوزيع العام، أو متاجر الدولة وسلسلة من المتاجر والأفران الخاصة لتوزيع منتجات الدولة الغذائية. وفضلاً عن ذلك، تعوّض الشركات المملوكة من الدولة عن النقص في الإمدادات الغذائية من خلال استيراد المنتجات الغذائية والزراعية. يستورد العراق نحو 50 في المئة من احتياجاته الغذائية. ولذلك، في حال حدوث صدمات في سلاسل الإمدادات الغذائية العالمية أو انهيار موازنة الدولة – يعتمد العراق على النفط في 90 في المئة من إيرادات الدولة – تعاني المنظومة الغذائية من المعطوبية وتصبح الحكومة عاجزة عن النهوض بمنظومة تعتمد اعتماداً كاملاً على التدخل والدعم من الدولة.
تُشارك شبكة معقّدة من سبع وعشرين منظمة حكومية، منها وزارات وشركات مملوكة من الدولة وهيئات حكومية (لجان نيابية ووزارية)، مشاركة ناشطة في المنظومة الغذائية. وإضافةً إلى ذلك، يعمل 18 مجلساً وهيئة على مستوى المحافظات و120 مجلساً وهيئة على مستوى الأقضية في المنظومة الغذائية مع درجات معيّنة من الاستقلال الذاتي عن الحكومة المركزية انطلاقاً من الهيكلية الفيدرالية والمناطقية في العراق. لكل منظمة مصالحها الخاصة وتأثيرها في المنظومة الغذائية. وتختلف هذه المصالح بحسب التفويض، والموارد المالية، والسلطة التوزيعية، بدفعٍ من الانقسامات المذهبية والإثنية والقبلية التي تتوغل عميقاً في المجتمع العراقي. وعلى مر السنين تنافست هذه المنظمات على الموارد المالية الآخذة في التناقص. فعلى سبيل المثال، بلغت كلفة نظام التوزيع العام الذي يُعتبَر واحداً من أكبر برنامجَين للغذاء – وهو عبارة عن شبكة أمان اجتماعي مؤلَّفة من سلة غذائية تُوزَّع على كل أسرة عراقية – نحو 1.43 مليار دولار في عام 2019. والثاني هو برنامج شراء القمح والشعير بكلفة 1.25 مليار دولار والذي تشتري الدولة، من خلاله، القمح والشعير من المزارعين بأسعار تساوي ضعف الأسعار الدولية. اعتماد العراقيين على هذه البرامج المطبَّقة منذ عقود وعلى الدعم الحكومي المباشر وغير المباشر يحمل خطراً كبيراً في الفترة المقبلة. فالتراجع في موازنة كل من نظام التوزيع العام وبرنامج شراء القمح والشعير منذ عام 2015 مقروناً بالهبوط غير المسبوق في أسعار النفط هذا العام سوف يؤثّر في الأمن الغذائي للأسر العراقية وفي الأوضاع المالية لمعظم المزارعين العراقيين. فهؤلاء المزارعون الذين يعانون من أجل الصمود في خضم جولات النزاع والتحديات الاقتصادية، معرّضون لخطر عدم تقاضي ثمن منتجاتهم هذا العام. فالدولة العراقية عاجزة عن تمويل هذه البرامج في شكلها الراهن، ولا يمكنها تطبيقها على نحوٍ فعال بسبب الفساد المستشري والمصالح السياسية.
السيطرة الشديدة التي تمارسها الحكومة على المنظومة الغذائية بكاملها مردّها إلى السياسات التي انتهجتها الدولة على مر عقود بدءاً من عهد النظام البعثي. واستمرت هذ المنظومة حتى بعد انهيار الدولة العراقية في أعقاب الاجتياح الأميركي في عام 2003 – على الرغم من بذل بعض الجهود المتقطعة لتأمين الدعم الحكومي للسلع تحت تأثير الضغوط من الرأي العام بسبب اعتماد المواطنين المستمر على المساعدات من الدولة. ونظراً إلى هذا الاعتماد المتجذّر على الدولة، تخوّفت الحكومات المتعاقبة من تفكيك منظومة الرعاية الاجتماعية والمؤسسات التي تقوم عليها هذه المنظومة. فهذه المؤسسات هي في آنٍ واحد جهة الاستخدام الأكبر للعراقيين، ومصدر تستخدمه الفصائل والأفرقاء المختلفون للمحاباة وتحقيق المصالح الخاصة. وهكذا، ظلّ السياق المؤسسي على حاله عن سابق تصوّر وتصميم على الرغم من الجهود التي بذلتها حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي لدمج بعض المؤسسات الحكومية في عام 2015.
تعاني وزارة الزراعة، التي هي في صلب الشبكة المعقّدة للمؤسسات الحكومية والمنافسة، من الضعف على مستويات الموارد البشرية، والعمليات، والموازنة والتفويض الذي يقتصر على الإنتاج الزراعي فقط. وعلى الرغم من أن الوزارة تدير شركتين مملوكتين من الدولة، وهما شركة ما بين النهرين العامة للبذور – التي تبيع البذور للمزارعين وتشتريها منهم – والشركة العامة للتجهيزات الزراعية – التي توزّع الآلات الزراعية – إلا أن الوزارة خاضعة وتفتقر إلى النفوذ في المنظومة الغذائية. وقد تبدّلت معالم وزارة الزراعة بفعل الهبوط في أسعار النفط، والفدرلة، وانتقال صلاحياتها إلى جهات أخرى، وتقدُّم الموظفين المتمرسين في السن، وغياب الإمكانات التقنية، والضرر الذي ألحقه النزاع ببنيتها التحتية. وباتت وزارة الزراعة تعاني الآن من نقص في التمويل والتجهيزات بما يُعطّل قدرتها على رفع تحديات الأمن الغذائي والتنمية الزراعية المستدامة. لا تتولى الوزارة إدارة أيٍّ من البرنامجَين المذكورين، أي نظام التوزيع الغذائي وبرنامج شراء القمح والشعير، على الرغم من أنها تتحمل بطبيعة الحال مسؤولية القطاع الزراعي والأمن الغذائي. بل إن وزارة التجارة هي التي تسيطر على البرنامجَين من خلال شركتَيها العملاقتين، الشركة العامة لتجارة المواد الغذائية والشركة العامة لتجارة الحبوب. ويتسبب ذلك بتعقيدات مؤسسية غير ضرورية، وبغياب الفاعلية وزيادة الأكلاف فضلاً عن الإمعان في إضعاف وزارة الزراعة مع أنها مؤسسة أساسية في المنظومة الغذائية.
تسجّل موازنة وزارة الزراعة تراجعاً منذ عام 2015 حين شهدت أسعار النفط هبوطاً حاداً وانخفضت موازنة العراق بصورة عامة. وحتى عندما بدأت الموازنة الاتحادية بالارتفاع في عام 2016، وبعد تحرير أجزاء من البلاد من قبضة الدولة الإسلامية وحاجة تلك المناطق إلى الاستقرار في مرحلة ما بعد النزاع من خلال التنمية الزراعية، استمرت حصة وزارة الزراعة في الموازنة بالتراجع. فقد خصصت الحكومات المتعاقبة أموالاً أقل لوزارة الزراعة على الرغم من تسجيل زيادة في الموازنة العامة بعدما كانت قد انخفضت في إثر انهيار أسعار النفط في عام 2015. وفي هذا الصدد، يشار إلى أن موازنة وزارة الزراعة بلغت نحو 426 مليون دولار في عام 2015. وبحلول عام 2019، تراجعت هذه الموازنة إلى 142 مليون دولار، وباتت تغطّي بصورة أساسية رواتب الموظفين فقط، ما يجعل الوزارة عاجزة عن معالجة انعدام الأمن الغذائي والاستجابة لأي صدمات في أسعار المواد الغذائية.
تكشف الجائحة، مقرونةً بانهيار الأسواق النفطية، النقاب عن هشاشة المنظومة الغذائية، والهيكلية التي تتولى إدارتها في العراق، وتُبرِز الحاجة إلى العمل على نحوٍ سريع وفعال للحد من مخاطر انعدام الأمن الغذائي. ففي غياب الإصلاحات الملحّة والتمكين اللازم، لن يقوى العراق على الصمود في وجه الصدمات المقبلة التي تتسبب بها الجائحة في سلسلة الإمدادات الغذائية العالمية وما يرافقها من تداعيات اقتصادية.
هادي فتح الله مدير في مجموعة شمال أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا (NAMEA GROUP). الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبّر بالضرورة عن آراء المؤسسات التي يعمل فيها أو يرتبط بها. لمتابعته عبر تويتر: @Hadi_FAO.