المصدر: Getty
مقال

العلاقات المغربية الجزائرية: سجال عبر التاريخ

أعاد قطع العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والجزائر، الصيف الماضي، إلى الأذهان أصداء تاريخ من التوتر وانعدام الثقة بين الجارتين.

 إلهام رشيدي
نشرت في ٣ مايو ٢٠٢٢

انتهى الصيف الماضي بمفاجأة لم تكن غير متوقعة بعد أن أعلنت الجزائر قراراً أحادياً بقطع العلاقات مع المغرب بعد مرور أقلّ من أسبوع على تصريح الرئاسة الجزائرية أنها تعتزم "إعادة النظر" في علاقاتها مع جارتها. وعلى الرغم من امتداد العداء والمنافسة بين البلدين على مدار عقود إلا أن التوترات التي طالما شهدتها العلاقات الثنائية قد دخلت منعرجاً جديداً في ديسمبر 2020 عندما أعلن المغرب تطبيع علاقاته مع إسرائيل مقابل اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المملكة على أراضي الصحراء الغربية، وهو الموقف الذي أدى بالجزائر إلى عزل نفسها دبلوماسياً عن المغرب بشكل تدريجي خاصة بعد أن أعلنت أسبانيا في آذار/مارس من العام الحالي تأييدها لخطة الحكم الذاتي للصحراء الغربية التي تدعمها المغرب وهو ما جاء صدمة هازمة للجزائر. 

شهدت الشهور التالية تصاعد حملات الهجوم اللفظي بين البلدين لتصل ذروتها في شهر تموز/يوليو عندما أعلن عمر هلال، سفير المغرب لدى الأمم المتحدة تأييده الصريح لحق سكان منطقة القبائل في تقرير مصيرهم رداً على الدعم الجزائري لجبهة البوليساريو، وهو ما أثار غضب الحكومة الجزائرية التي سارعت لاستدعاء سفيرها لدى المغرب "للتشاور". وفي الوقت نفسه تصدرت الصحف تقارير إعلامية – نفتها المغرب- تشير إلى تورط المملكة في استخدام برنامج بيغاسوس للتجسس الإلكتروني لاستهداف هواتف شخصيات عامة ومسؤولين سياسيين وعسكريين جزائريين. زاد الطين بلة  اتهام الجزائر المغرب بدعم جماعتين تدرجهما الجزائر على قوائم المنظمات الإرهابية وهما "رشاد الإسلامية" و"ماك" الانفصالية في منطقة القبائل، وحمّلها، بدون دليل مادي، مسؤولية الحرائق التي اجتاحت الحياة البرية في الجزائر.

في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي نسبت الجزائر إلى المغرب مقتل ثلاثة سائقين جزائريين في الصحراء الغربية عن طريق قصف شاحناتهم أثناء قيامها برحلات تجارية بين الجزائر وموريتانيا. أما المغرب فقد تجنب الرد رسميا. هذا أدى إلى عدم التصعيد وأزال احتمال اندلاع صراع عسكري مباشر للمرة الأولى منذ عقود. وعلى الرغم من أنه غير محتمل، لأدى الحادث المأساوي إلى تأجيج التوترات بدرجة لم تشهد لها المنطقة مثيلاً إلا بعد انتهاء وقف إطلاق النار الذي دام ما يقارب 29 عاماً بين المغرب والبوليساريو في 2020.
كانت الحدود البرية بين المغرب والجزائر قد أغلقت في عام 1994 بناءً على طلب تقدمت به الجزائر بعد أن اتهمت المغرب أجهزة المخابرات الجزائرية بالتورط في تفجيرات مراكش باستخدام عملاء فرنسيين من أصول شرق أفريقية وفرضت استخراج تأشيرة دخول على المواطنين الجزائريين وطردت أولئك الذين لا يحملون رخصة إقامة. 
وبالتالي لم تكن القطيعة الدبلوماسية الأخيرة هي الأولى من نوعها بين البلدين، ولكنها جعلت الأمر الواقع أكثر وضوحاً وزادت عمق الهوة التي تجلت في إغلاق المجال الجوي الجزائري أمام الطيران المغربي، ورفض الجزائر تجديد عقد خط الغاز المغاربي الأوروبي الذي يحمل الغاز إلى أسبانيا عبر المغرب.

على مدار تاريخهما المشترك، كانت مشكلة الصحراء الغربية شوكة في جنب العلاقات الجزائرية المغربية والسبب الرئيس للعداء بين البلدين. فالمغرب يعتبر المستعمرة الأسبانية السابقة جزءاً لا يتجزأ من أراضيه، ويعتبر هيمنته عليها مسألة كرامة وطنية تعتمد عليها سياساته الخارجية. أما الجزائر  فتدعم "بوليساريو" التي تطالب باستقلال الإقليم.

في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1975 شهد الصراع تحولاً جيوسياساً كبيراً لصالح المغرب نتج عنه مزيداً من التعقيد في العلاقات بين البلدين. حيث قامت المغرب بتنظيم ما يعرف بـ "المسيرة الخضراء" التي زحف فيها نحو 350 ألف من المغاربة غير المسلحين إلى مناطق بالصحراء الغربية، وخلال بضعة أيام تم توقيع اتفاقية مدريد الثلاثية بين المغرب وأسبانيا وموريتانيا على أن يتم بموجبها إنهاء الوجود الإسباني في الصحراء، ولكن الاتفاقية على أهميتها، فشلت في حل المشكلة التاريخية بين البلدين لأنها حملت اعترافاً ضمنياً بإقصاء  الجزائر وجبهة البوليساريو اللتان لم تشاركا فيها.

قامت الجزائر فجأة بطرد 45,000 عائلة مغربية مقيمة على أراضيها، واتبعت ذلك في آذار/مارس من عام 1976 باعترافها بالجمهورية العربية الصحراوية التي أقامتها جبهة البوليساريو المسلحة، وهو ما أدى بالمغرب لقطع علاقاته الدبلوماسية مع الجزائر على الفور. وفي محاولة لتبرير موقفها المتعنت من مسألة الصحراء الغربية قالت الحكومة الجزائرية إنها إنما تؤيد الحق في تقرير المصير، وهو المبدأ الذي قامت عليه الدولة الجزائرية الحديثة وادعت أيضاً أن أي تسوية للنزاع على أراضي الصحراء الغربية يجب أن يتم تحت إشراف دولي وبرعاية الأمم المتحدة وليس من خلال المفاوضات المباشرة مع المغرب، وهو الموقف الذي يزيد من استعداء المغرب ويؤجج التوتر بين الدولتين.

لكن، وعلى الرغم من محورية قضية الصحراء الغربية في الصراع المغربي الجزائري إلا أنها في الحقيقة ما هي إلا ذريعة يستند إليها البلدان لتبرير تناحرهما المستمر وتغطية السبب الحقيقي للصراع وهو التنازع على الأرض والرغبة في السيطرة الإقليمية التي هيأت التربة لاندلاع حرب بينهما تركت أثرا لا يمحى في جسد علاقاتهما. بحلول ستينات القرن الماضي، ازداد التباعد الكبير في المسار السياسي والأيديولوجي بين الدولتين حديثتي الاستقلال وضوحاً خاصة عندما رحبت الحكومة الجزائرية الاشتراكية باستقبال شخصيات يسارية من المعارضة المغربية على أراضيها وسمحت لها بالعمل في جامعتها المرموقة حينذاك. 

تجمع الدولتين عوامل مشتركة من لغة ودين وثقافة، ولكن فرقهما النظام السياسي الحاكم وما أملاه من خلافات ونزاعات وتحالفات دولية- خاصة إبّان الحرب الباردة -وهو ما أدى بهما إلى مسارات متفرقة، بل ومتباعدة تختلف تماماً عن التوافق والتعاون الذي كان يصبغ علاقتهما عندما اشتركتا في النضال ضد المستعمر الفرنسي. شهد الكفاح المشترك ضد الاستعمار وحدة المصائر والمسارات وطالما اعتمدت الجزائر على الحدود المغربية واتخذتها بمثابة القاعدة الخلفية لجبهة التحرير الوطنية الجزائرية. وحتى تاريخ استقلال الجزائر ارتبطت النخب في البلدين بعلاقات وثيقة، بل بروابط عائلية أحيانا، وهناك العديد من الأمثلة على شخصيات سياسية معروفة بصلاتها بكلا البلدين في ذلك الوقت. 

وعلى سبيل المثال كان المغربي عبد الكريم الخطيب وهوسياسي ووزير مغربي ومن أشد مؤيدي النظام الملكي المغربي، ينحدر من أصول جزائرية. وكان ابن عمه يوسف الخطيب قائداً لجيش التحرير الوطني الجزائري خلال حرب التحرير الجزائرية. أما على الجانب الجزائري فكان شريف بلقاسم السياسي البارز الذي ينتمي لمجموعة "وجدة" -وهي الفصيل المؤيد للرئيس الجزائري السابق هواري بومدين والذين استخدمهم في الاستيلاء على الحكم في صيف عام 1962- مغربي الأصول. وحتى الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقه، وهو بالطبع جزائري الأصل إلا أنه مغربي المنشأ.
ولهذا السبب وعلى الرغم من مسيرته الطويلة كدبلوماسي جزائري مرموق إلا أن انتخابه في عام 1999 أحيا آمال النخبة السياسية المغربية في تحسين العلاقات بين البلدين، ولكن، لم يكن مفاجئا، أن لم تشهد فترة حكمه التي استمرت عشرين عاماً أي تغيير إيجابي مبشر، بل إن البلدين لم يعقدا أي محادثات رسمية على مستوى القمة منذ التقى الملك محمد السادس والرئيس الراحل بوتفليقة في عام 2005 على هامش قمة جامعة الدول العربية التي عقدت في الجزائر العاصمة.
 
أنتج هذا التباعد حالة من التغريب بين اللاعبين السياسيين في كلا البلدين، فبالكاد يعرف بعضهم بعضاً، بل ونشأت أجيال جديدة تقتات على مفاهيم خاطئة وكليشيهات تكرسها الآلات الإعلامية الحكومية على كلا الجانبين تعمل على تشويه سمعة الشخصيات السياسية وتركز على الأزمات والتناحرات الداخلية. ومع كل ذلك، فإن الخلاف السياسي المشتعل منذ عقود لم يؤثر بالفعل على النظرة الاجتماعية المتبادلة بين مواطني البلدين، على العكس نجد الشعبين يدعوان باستمرار إلى فتح الحدود بين الجارتين ونجد الفعاليات الرياضية حافلة بمواطني كلتا الدولتين يدعمون بعضهم البعض في صورة حقيقية للأخوة والتواد.

من المؤسف أن المواطنين الجزائريين والمغاربة هم الذين يدفعون ثمن الخلافات السياسية التي فرقت الأسر التي لديها علاقات قرابة في البلدين، خاصة تلك التي لديها أفراد موزعون بين الجهتين في مناطق الحدود، حيث أصبح التواصل العائلي صعباً مع غلق الحدود البرية وارتفاع تكاليف النقل الجوي بشكل خيالي، ما شكل معاناة لآلاف الأسر التي أصبحت تعاني من أجل الالتقاء وأصبحت مضطرة للسفر بالطائرة من الدار البيضاء المغربية إلى الجزائر العاصمة والعكس صحيح. ورغم أن الحدود بين البلدين كانت مغلقة رسميا، لكن كان بالإمكان اختراقها وتهريب المازوت والبضائع، غير أن عمليات التهريب أصبحت صعبة منذ شهر يونيو/حزيران الماضي، بعد أن شددت الحكومة الجزائرية مراقبتها للحدود.

في الآونة الأخيرة وجد المزارعون المغاربة، الذين طالما زرعوا الأراضي عبر الحدود، أنفسهم في وضع مزر نتيجة لعملية الإغلاق ما أدى بهم للتظاهر في منطقة العرجة في مقاطعة فجيج في آذار/ مارس 2021 رداً على طردهم من قبل السلطات الجزائرية. يخشى كثير من المراقبين أن الانقطاع الحالي في العلاقات قد يؤثر سلباً على المجتمعات المحلية التي أُنشئت في البلدين، وأن أي تفاقم جديد للأوضاع قد ينتج عنه عمليات ترحيل جديدة.

بذل المغرب جهوداً في سبيل الوصول إلى مصالحة ودعا الملك المغربي في عدة مناسبات إلى الحوار وفتح الحدود، بل واقترح في خطبة العرش استراتيجيات جديدة للتعامل تضمن تهدئة التوترات المتصاعدة. أما على الجانب الجزائري فإن القادة الجزائريين الذي ينتمون لجيلٍ أكبر سناً، والذين يعانون في مواجهة الأزمات السياسية الداخلية الطاحنة، لا يبدو أن لديهم الإرادة السياسية أو الرغبة في المصالحة. وفي كل الأحوال لن تتحسن العلاقات الثنائية إلا إذا اتفق القادة من كلا الجانبين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. 

إلهام رشيدي، صحفية مستقلة تركز على الحركات الاحتجاجية وقضايا حقوق الإنسان في المغرب والجزائر، لمتابعتها على تويتر @Ilhemrachidi

 

 



لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.