"كل ما أريده هو الاستيقاظ... إذا كنت قادرة على الكتابة، فهذا يعني أنني بقيت مستيقظة. كيف لي أن أستدعي الراوي الذي بداخلي ليحكي قصة جسدٍ، وقصة نفسٍ محتجزة بداخله لكنها مقتنعة تمامًا بأنه لا مخرج أمامها – إلا من خلال الجسد؟ أدرك أن الوقت سيقول كلمته. عيناي ناعستان على الدوام، وعضلات عينَيّ تنغلق، فتجعلني أقرب إلى نفسي بطريقة مثيرة للاضطراب. عليّ أن أنظر إلى أعماقي. وما يحدث بعد ذلك هو ما يخرج إلى العلن".
هكذا يبدأ كتاب "رأس فوق الماء: تأملات في المرض" (Head Above Water: Reflections on Illness)، وهو عبارة عن مذكرات قوية الأثر للدكتورة شهد الشمري، الكاتبة الكويتية-الفلسطينية والأستاذة المساعدة لمادة الأدب الإنجليزي في الجامعة الخليجية للعلوم والتكنولوجيا. يوثّق الكتاب تجربة الشمري مع التصلب اللويحي، وهو مرض مزمن يؤثّر في الجهاز العصبي المركزي.
شُخِّصت إصابة الشمري بالتصلب اللويحي حين كانت لا تزال في الثامنة عشرة من العمر. فبدأت تجربة طبية محفوفة بالمخاطر، بحثًا عن الاستقرار داخل جسدها، وانطلقت في عملية بحث استمرت سنينًا طويلة لتتعلّم العيش مع إعاقة ليست مرئية دائمًا للآخرين، فيما تواجه في الوقت نفسه العنصرية، والتمييز ضد ذوي الإعاقة، والتمييز الجنسي. تقدّم الشمري تأملاتها، التي تعرضها بالتفصيل عبر كتابها المؤلّف من 171 صفحة، في سردية صادقة ومؤثرة عن المرض وعن حياة امرأة عربية.
تقول الشمري: "تحوّلت نحو الكتابة في محاولة مني لتغيير السردية الطاغية حيث يسود الصمت عن أجساد النساء، وبصورة خاصة الأجساد المريضة/المعاقة (للرجال والنساء على السواء)"، مضيفةً: "أردت أن أناقش معنى العيش في بيئة تمارس تمييزًا شديدًا ضد ذوي الإعاقة، من خلال وضع تجربتي مع المرض في صلب السردية، ولكن أيضًا مع الاستفاضة في مناقشة مسائل أوسع عن التمييز ضد ذوي الإعاقة والتمييز الجنسي اللذين يؤثّران في النساء والرجال على السواء".
قرار الشمري الكشف عن التفاصيل الحميمة لحياتها، مثل التمييز الذي واجهته كامرأة مُعاقة في المجال الأكاديمي وذكرياتها عن تجنّب استخدام اللهجة الفلسطينية بعد حرب الخليج الثانية خوفًا من النبذ الاجتماعي، ليس مسارًا معهودًا نألفه لدى الكتّاب في منطقة الخليج والعالم العربي الأوسع، لا سيما النساء منهم. تجيب الشمري لدى سؤالها عن السبب: "أعتقد أن السرديات المتعلقة بالمرأة محاطة بوصمة عار كبيرة وخزي شديد"، مضيفةً: "لا تسترعي الكتابات غير الخيالية قدرًا كبيرًا من الاهتمام حتى في المناهج المدرسية (فما بالكم بالمناهج الجامعية). فالكتابات الشعرية والخيالية تستحوذ على اهتمام أكبر. أريد أن يضاف الكتاب [رأس فوق الماء] إلى الأعمال التي يُعدّها مؤلّفون خليجيون يكتبون عن المنطقة وانطلاقًا منها. أريده أن يكون سردية "تنطق بصوتها الخاص" وتتحدّى السرديات السائدة عن الإعاقة والمرض والعروبة والأنوثة".
لم يكن سهلًا للشمري أن توثّق تجاربها الشخصية، وهي تقرّ بأنها أخذت استراحة لمدة عامَين بعد بدئها العمل على الكتاب في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. تستعرض شهد الشمري الصعوبات المرتبطة بكتابة سردٍ غير خيالي: "كانت التحديات الداخلية نابعة من سعيي لإرساء توازن بين الشعور بالضعف وبين الحفاظ على نظرة الآخرين إليّ بوصفي أستاذة جامعية. كان هناك خيط رفيع جدًا بين هاتين الهويّتَين".
لكن في نهاية المطاف، كان الدافع وراء قرار نشر المذكرات نابعًا من اعتقاد الشمري بأن "التغيير يبدأ من الكتابة والحديث وإسماع أصواتنا". تقول: "أردت مشاركة هذه التجارب مع الآخرين الذين يمكنهم إما أن يُلهموا التغيير في مجتمعاتهم وإما أن يُغيّروا طريقة تفكيرهم. حين نكتب عن وقائع حياتنا، نتطلع إلى مستقبل أفضل وحياة أفضل للأجيال المقبلة. وبما أنني أعمل في التدريس، يقع هذا التطلع دائمًا في صلب تجاربي وأهدافي في الحياة".
تقول الشمري عن آمالها بشأن مستقبل الكتابة في المنطقة: "أتمنّى أن تُنشَر مزيد من الكتابات عن أمراض الإعاقة، وأن يتم التطرق إلى التمييز ضد ذوي الإعاقة حين نبدأ بخوض النقاشات المهمة عن التمييز الجنسي، والنظام الأبوي، والعنصرية. أريد أن أرى تجارب مُعاشة حقيقية عن الخوض في هذا العالم من خلال الأجساد التي وُلدنا بها". تتابع: "أرغب في رؤية ناشرين مهتمين فعليًا بهذا النوع من الأعمال. وأتطلع إلى أن يكتب الرجال والنساء على السواء عن هذه التجارب الحميمة والهشّة المتمحورة حول معنى أن نكون بشرًا ومرضى ومعاقين نعاني من الأسى ونكافح من أجل البقاء. أريد أن تسقط وصمة العار التي تُلصَق بالجسد المريض/المعاق، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال إنتاج مزيد من الأعمال ومشاركتها مع الآخرين".
شريفة الهنائي مؤسِّسة مجلة "سكة" ومتحف الفن الخليجي. وهي خرّيجة جامعة SOAS وجامعة أكسفورد، وحائزة على جائزة المرأة العربية لعام 2020. لمتابعتها على تويتر @sharifahalhinai.
ملاحظات
يتوافر كتاب Head Above Water للقرّاء ابتداءً من 30 أيار/مايو 2022.