انفضت جولة جديدة من المواجهة بين حركة الجهاد الإسلامي وإسرائيل في قطاع غزة باتفاق الطرفين على وقف إطلاق النار بوساطة مصرية في 13 أيار/مايو 2023، وبموافقة إسرائيل على وقف استهداف المدنيين ووقف هدم المنازل واستهداف الأفراد.
اشتغلت الحكومة الإسرائيلية، مع انطلاق عملياتها العسكرية بالاستهداف المفاجئ لثلاثة من قيادات الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، على سياسة التفرد والتمييز والتجزئة بالإعلان عن استهداف الجهاد الإسلامي في معركةٍ حصرية معها، وقد ثبّتت ذلك بالممارسة العملية من خلال اقتصار أهدافها على قيادات الجهاد الإسلامي ومواقعها العسكرية في القطاع.
ولم تقتصر نوايا حكومة نتنياهو على إرضاء المتشددين من أعضائها وترحيل أزمتها الداخلية، واستعادة معادلة الردع على أهميتها، بقدر محاولتها - وفق المراقبين - خلق فتنة بين حركتي الجهاد وحماس من جهة، وبين الجهاد وسكان غزة من جهة ثانية، وذلك بمراهنتها على تعزيز الخلاف بين الحركتين، ونشوب ثورة شعبية ضد الجهاد الإسلامي لتحميلها مسؤولية معاناة السكان مع استمرار الهجمات الإسرائيلية وإغلاق المعابر الحدودية وتعطيل الحياة في القطاع.
كان على حركة حماس المفاضلة بين أحد خيارين، إما أن تخوض المواجهة مع ما سيُعرِض سلطتها وقيادتها لمخاطر الإطاحة والاستهداف، أو أنها لا تشارك في المواجهة مع ما ستفقده من مصداقية داخلية؛ لكنها اختارت الثاني ضمن سياسة الحياد التي تسببت بحرجٍ شديد لها. ورغم تعمد الإعلان عن أن المواجهة تُدار بتنسيق كامل عبر "الغرفة المشتركة"، إلا أن هذا الإعلان لم يُقنع الرأي العام والمراقبين الذين تابعوا تفاصيل المواجهة في أيامها الخمسة، خاصة مع الرسائل الإعلامية التي تصدرتها الجهاد الإسلامي في المستويين السياسي والعسكري.
حدث الاختبار الثاني من اختبارات تحييد حركة حماس في 18 أيار/مايو مع انطلاق "مسيرة الأعلام الإسرائيلية" في مدينة القدس المحتلة، التي مرت في مسارها المُعلن وقوبلت بصمت فلسطيني كامل إلا من بيانات الشجب والإدانة والوعيد. ووفق هذه الشواهد، مرت التهديدات التي سبق وأن أطلقها رئيس حركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار، بعدم قبول تكرار مشهد الاقتحامات الإسرائيلية لباحات المسجد الأقصى، دون أيّ فعل في مواجهة إسرائيل.
يطرح هذا الغياب المستمر تساؤلات عن دوافع عدم مشاركة حركة حماس فيها، وعن حقيقة نجاح سياسة تحييد الحركة، خاصة بعد غيابها عن مواجهتين سابقتين في عامي 2019 و2022، وما إذا كان هذا الموقف نابعًا من قناعات ذاتية وتحولات داخلية تتعلق بالحسابات السياسية أم لا.
هكذا استعادت حركة حماس وهي في السلطة اليوم موقف الحياد نفسه الذي تبنته السلطة الفلسطينية بعد الانتفاضة الثانية عام 2000، وهو الخيار الذي كلف السلطة وحركة فتح خسارة الانتخابات التشريعية في يناير 2006، لصالح فوز حماس بغالبية مقاعد المجلس التشريعي. بينما تحتل الجهاد الإسلامي موقع حماس نفسه بعد أكثر من عشرين سنة، تمارس حماس موقف الحياد الشبيه بموقف السلطة على قاعدة أن للحكم استحقاقاته وحساباته الدقيقة التي تراعيها الحركة.
وارتكازًا على هذه القاعدة، وبعد تحييد حركة حماس عن جولات المواجهة الثلاث في 2019 و2022 و2023، بات الطرفان يحتكمان لحسابات الربح والخسارة، فمن جهة تُحقّق إسرائيل التهدئة وخفض التوترات في منطقة غلاف غزة وما بعدها، ومن جهة ثانية تُحافظ حماس على سلطتها المنفردة في غزة، وتتحقق لها ميزة تلقي الدعم المالي بموافقة إسرائيلية، ويُمنح آلاف العمال والتجار الغزيين تصاريح للعمل في إسرائيل.
لم تَنتُج هذه التحولات من المواجهة مع إسرائيل في السنوات الخمس الأخيرة، لكنها تُقرأ في سياق معادلة التحولات التدريجية التي عرفتها الحركة مع انخراطها في النظام السياسي الفلسطيني، ومن أمثلتها، المشاركة السياسية تحت مظلة اتفاق أوسلو الذي عارضته، والدخول في مفاوضات غير مباشرة توّجت باتفاقات التهدئة رغم رفض الاعتراف بإسرائيل، والإيمان بالمقاومة الشعبية السلمية، والتعاطي مع فكرة الحلّ المرحلي كأساس للتسوية السياسية، حتى باتت مواقف الحركة تتماثل مع مواقف منظمة التحرير.
ووفق هذه الحقائق، يبدو أن حركة حماس تمهّد لمسارٍ جديد في معادلة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، قد يبدأ بهدنة طويلة ودائمة - يُنَظّر لها بعض قيادات الحركة - تُمهد للتفاوض المباشر مع إسرائيل مثلما فعلت منظمة التحرير استجابة للمتغيرات الدولية والإقليمية، وعلى قاعدة التعاطي مع الطروحات السياسية لا الأمنية فقط للتخفيف من أزمات غزة، بما يكرس الاعتراف بـحماس وديمومة سلطتها، وفي ذلك استعادة للرؤية المبكرة لمؤسس الحركة أحمد ياسين بشأن الهدنة الطويلة مع إسرائيل، ولرؤية موسى أبو مرزوق حول عدم تحريم التفاوض الذي قد تجد حماس نفسها مضطرة له، وهذا ما تؤشر إليه (أو ما تُنبئ به) "سياسة الحياد"، لكن الحركة في المحصلة النهائية، ستكون مطالبة بتحديد موقفها من المقاومة، أو أن تكتفي بوضع شبيه بموقف منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية التي لم تسقط خيار المقاومة من أدبياتها في الوقت الذي لا تمارس فيه فعلًا مقاومًا.
عزام شعث، كاتب وباحث سياسي مقيم في غزة، حاصل على درجة الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية من جامعة محمد الخامس بالرباط.