شكّل ظهور محمد البرادعي مرشحاً محتملاً للرئاسة عنصراً جديداً غير متوقّع في أزمة التوريث التي تتحرّك ببطء في مصر. فللمرة الأولى في الذاكرة الحديثة، تحدّث عضو مرموق في المؤسسة المصرية ضد نظام مبارك. وحتى لو لم يهاجم البرادعي الرئيس حسني مبارك شخصياً، إلا إن شجبه للمأزق الحالي الذي يعيشه مصر يمثل وقعاً كارثياً بالدرجة نفسها لأنه يصدر عن رجل يبدو بوضوح أكثر تأهلاً للرئاسة من وريث العهد جمال مبارك.
طوال أشهر، ورد اسم البرادعي–الذي تنحّى مؤخراً من رئاسة الوكالة الدولية للطاقة الذرية ويقيم في فيينا بانتظار عودته إلى مصر في فبراير/شباط–ضمن الأسماء المرموقة التي يؤمَل ترشّحها وقد تتمكّن من إحباط سيناريو توريث السلطة. والواقع أن بيانه غير المتوقَّع الصادر في السادس من ديسمبر/كانون الأول 2009 والذي يذكر فيه شروطه للترشّح، لايثيرغضب بعض الفصائل في النظام المصري وحسب، بل يشير أيضاً إلى الصعوبة المستمرة التي تواجهها المعارضة في ممارسة تأثير حقيقي.
منذ ديسمبر/كانون الأول 2004، عندما احتشد أنصار حركة كفاية لأول مرة خارج محكمة التمييز في القاهرة للاحتجاج على إعادة انتخاب حسني مبارك المتوقّعة (التجديد)، وعلى مايتم تداوله حول إعداد ابنه جمال لوراثة منصبه (التوريث)، لم تحقّق المعارضة المصرية تقدّماً كبيراً في تشكيل تحدٍّ جدي لنظام مبارك. وقد أدّت حركة كفاية دوراً أساسياً في التعبير عن عدم الرضى عن الوضع القائم، لكنها لم تستقطب سوى مجموعة محدودة من الناشطين، كما أنها فشلت في استقطاب الجزء الأكبر من المؤسسة في البلاد. وقد واصلت الأحزاب المعارضة الأساسية المرخّص لها قانونياُ–الوفد والتجمّع والحزب العربي الناصري وحتى حزب الغد الأحدث عهداً–انزلاقها نحو التهميش، فتناقص عدد مقاعدها في مجلس الشعب وتضاءلت حصتها من الوعي العام، في الوقت الذي توارت فيه أجهزتها الإعلامية وراء صحافة تجارية جديدة نابضة بالحياة. أما الأحزاب الأخرى فإما حُرِمت من الاعتراف القانوني (الوسط، الكرامة)، إما ليست موجودة عملياً (غالبية الأحزاب القانونية)، وإما لاتزال حركات فكرية بدلاً من أن تكون آلات سياسية (الجبهة الديمقراطية).
لقد أعلنت جماعة الإخوان المسلمين التي طالما صُوِّرت بأنها تشكّل التحدّي الأقوى للنظام، أنها غير مهتمة بترشيح شخص للرئاسة. وفي شكل عام، فإن إعادة تأكيد الطابع المحافظ والمتصوّف سياسياً للحركة الإسلامية–وأحد الأسباب هو المواجهة الشديدة مع النظام في الأعوام الأخيرة–يشير إلى أن الجماعة لاترغب في تحدّي التجديد أو التوريث، أو لاتملك القدرة حتى على القيام بذلك.
إذن، ليس مفاجئاً أن تطغى على النقاشات الإعلامية في الأعوام الأخيرة بدائل عن التنظيمات السياسية الرسمية التي غالباً ما تتمحور حول فكرة المنقذ الإلهي (المنقذين الإلهيين) بوصفه الأمل الأفضل الأخير ضد التوريث. لقد تكهّن الصحافيون والناشطون حول ما إذا كان بإمكان شخصية مرموقة، مثل البرادعي أو أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى أو عالم الكيمياء الحائز على جائزة نوبل أحمد زويل أو رئيس جهاز المخابرات العامة عمر سليمان، أن تحول دون وصول جمال مبارك إلى الرئاسة. واقترح محمد حسنين هيكل، وزير الإعلام السابق والمؤتمن على أسرار عبد الناصر الذي أصبح ناقداً بارزاً لنظام مبارك في سنوات أفوله، شكلاً معدَّلاً لهذه المعارضة المستندة إلى الشخصية في الحلقة الأخيرة من برنامجه التلفزيوني. فقد اقترح أن يقود مجلس من كبار القادة البلاد خلال مرحلة انتقالية يوضَع فيها دستور جديد قبل إجراء انتخابات رئاسية. وقد أخذت كل هذه السيناريوات في الاعتبار عجز التنظيمات السياسية القائمة عن تحقيق هذه التغييرات، وركّزت بدلاً من ذلك على الضغط المعنوي الذي يستطيع الشخص المناسب ممارسته لإقناع النظام بوجوب إجراء إصلاح حقيقي.
يقع موجب التغيير الدستوري هذا في صلب الشروط التي وضعها البرادعي للترشّح للرئاسة. فقد سلّط الضوء على عدم الشرعية السياسية للتعديلات الدستورية التي أجريت في العام 2007، والتي فرضت قيوداً شديدة على أهلية الترشح للانتخابات الرئاسية، مما جعل من شبه المستحيل ترشح شخص مستقل للرئاسة. لكن وأبعد من القواعد الانتخابية، طرح البرادعي علامات استفهام كثيرة حول الدستور الحالي عبر العديد من الحجج الأخلاقية والقانونية التي عبّر عنها في مقابلة مطولة مع الكاتب البارز جميل مطر في صحيفة الشروق. وقد سبق أن أثير عدد كبير من هذه الحجج قبلاً، لكن مكانة البرادعي منحتها قوة معنوية جديدة.
كان الرد على صعود البرادعي في الساحة السياسية خير دليل على التشنّجات داخل النخبة الحاكمة. فقد شنّت الصحف الموالية للنظام على الفور هجوماً تضمن الكثير من التلميحات (اتُّهِم البرادعي بأنه أداة في يد كل من واشنطن وطهران، وبأنه بعيد عن الواقع، ويملك الجنسية السويدية في الخفاء)، لكن هذا الهجوم جوبِه بموجة من الشجب من جانب أصوات تنتمي إلى اليسار واليمين على السواء داخل المؤسسة المصرية. واتفق الجميع انه يجب احترام إنجازات البرادعي ومكانته؛ ولايمكن أن تُستخدَم معه حملات تشويه السمعة التي استُعمِلت ضد السياسي أيمن نور أو الناشط في مجال الحقوق المدنية سعد الدين ابراهيم وأمثالهما (مع العلم بأنها كانت مجحفة جداً).
نظراً إلى أن البرادعي يعرف أنه من المستبعد أن يتم تعديل الدستور من جديد، يمكن اعتبار موقفه دعوة للتغيير الجذري خارج الإطار الدستوري والقانوني الحالي. وبالفعل، من الصعب استنباط بدائل عن هذا المخرج نظراً للامتيازات القانونية والسياسية التي يتمتع بها النظام. لكن حتى في سياق المنظومة الحالية، قد تكون لآرائه تداعيات.
فمن شأن الدعوة التي أطلقها البرادعي لإخضاع الانتخابات إلى مراقبة دولية (هذه كانت المرة الأولى التي تصدر فيها مثل هذه الدعوة عن شخصية معارضة أساسية) أن تؤدّي إلى تدقيق أكبر في الانتخابات البرلمانية في العام 2010 (انتخابات مجلس الشورى ومجلس الشعب في الربيع والخريف على التوالي). فضلاً عن ذلك، ساهم البرادعي إلى حد كبير في تعزيز الاهتمام العام بالانتخابات الرئاسية المزعم إجراؤها في السنة المقبلة. ويعتقد البعض أن جمال مبارك سيجد صعوبة أكبر بكثير في الترشح سنة 2011 (أو قبل ذلك إذا ماتوفّي والده) إذا كان البرادعي وجه المعارضة، ويلمّحون إلى أنه بات من شبه المؤكّد الآن أن الرئيس مبارك سيترشّح لولاية سادسة.
البرادعي على موعد مع مواجهة تصاعدية لدى عودته إلى مصر في فبراير/شباط، ومازال عليه أن يلتزم خوض المعركة. وبذالك فقد يواجه نظام مبارك التحدّي الأقوى له حتى الآن: رجل ذو مؤهلات لاتشوبها شائبة، وقادر على أن يصبح وجه المعارضة المصرية التي تفتقر إلى قائد منذ وقت طويل.
إيساندر عمراني كاتب ومحلل سياسي مقيم في القاهرة. يدوّن في www.arabist.net





