المصدر: Getty
مقال

جدار غزة وتداعياته

تأمل إسرائيل، عبر استكمال بناء الجدار حول غزة، بالتخلص من أي ضغوط أمنية الطابع للقبول بحل الدولتَين.

 باسم علي
نشرت في ٢٧ مارس ٢٠١٩

بدأت إسرائيل، في الثالث من شباط/فبراير الماضي، المرحلة الثالثة والأخيرة من بناء جدار كبير على طول حدودها البرية والبحرية مع غزة. وفي هذا الإطار، كتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تغريدة عبر تويتر، أن إسرائيل تسعى إلى "منع الإرهابيين في غزة من دخول أراضينا"، مضيفاً "إذا لم يتم الحفاظ على الهدوء في غزة، فلن نتردد في التحرك". يسعى نتنياهو إلى إحاطة إسرائيل بسياج "لحماية أنفسنا من الوحوش البرية" – في إشارة إلى الفصائل الفلسطينية – غير أن الخطوة تندرج أيضاً في إطار استراتيجية أوسع نطاقاً للتخلص من أي ضغوط أمنية الطابع تُمارَس على إسرائيل للقبول بحل الدولتَين.

يُشار إلى أن الجدار المشيَّد فوق الأرض والمصنوع من الفولاذ المغلفَن، سيمتد، عند انتهاء الأعمال، على طول 65 كيلومتراً (40 ميلاً)، من زيكيم عند الحدود الشمالية لقطاع غزة – حيث يمتد جدار بحري جديد من ثلاث طبقات علوّه 200 متر (656 قدماً) قبالة الساحل – إلى معبر كرم شالوم في الجنوب. ولهذا الجدار امتدادٌ موازٍ تحت الأرض مزوَّد بأجهزة استشعار وآلات مراقبة متطورة. ليس الجدار البحري مصنوعاً من ألواح إسمنتية ثقيلة وقضبان معدنية وحسب، بل يشتمل أيضاً على "سياج ذكي" مزوّد بأجهزة استشعار ونظام إنذار. يُحيط الجدار بمكسر الأمواج ويُستخدَم بمثابة "إجراء أمني أخير" رداً على عملية قامت بها حركة حماس في حرب 2014، حيث دخل فريق من المقاتلين إسرائيل عن طريق البحر. 

تترتب عن والجدار الجديد تداعيات مهمة ليس على الأمن الإسرائيلي وحسب إنما أيضاً على مستقبل عملية السلام. فقد شكلّ النضال المسلّح، تاريخياً، أداةً أساسية يستخدمها الفلسطينيون لإرغام إسرائيل على تقديم تنازلات في المفاوضات. فعلى سبيل المثال، نصّت اتفاقات أوسلو للعام 1993 على "إنشاء سلطة حكم ذاتي مؤقتة فلسطينية" في الضفة الغربية وقطاع غزة مقابل إنهاء "المواجهات والنزاعات المستمرة منذ عقود". بالطبع، جمعَ الفلسطينيون بين العمليات شبه العسكرية من جهة والخطوات السياسية والدبلوماسية من جهة ثانية، مثل دعوة الدول العربية والغربية إلى تبنّي مواقف جماعية مناهضة لإسرائيل، أو تنظيم احتجاجات واسعة النطاق، في إطار ما يُعرَف بالانتفاضة. لكن المكاسب التي حققوها في سياق عملية السلام بدأت بالانحسار تدريجاً، فقد دعا محمود عباس، زعيم حركة فتح – بعد وفاة ياسر عرفات في العام 2005 - إلى إنهاء الانتفاضة الفلسطينية وندّد بالعمليات شبه العسكرية. حتى إنه شجّع لاحقاً الحركة الإسلامية المنافسة لفتح، حماس، على السير على الخطى نفسها.

وفيما سجّل النضال المسلّح أدنى مستوياته منذ سنوات – بسبب الانقسامات داخل صفوف الفلسطينيين والحصار الإسرائيلي لغزة على السواء – تمكّن الفلسطينيون، على الرغم من ذلك، من تحقيق بعض التقدّم في انتزاع اعتراف دولي بحقهم في إقامة دولة. فعلى سبيل المثال، صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2012 على رفع مستوى تمثيل السلطة الفلسطينية من صفة "كيان" مراقب إلى صفة "دولة مراقبة غير عضو"، على إثر القرار الذي اتخذته منظمة اليونيسكو بمنحها العضوية الكاملة في العام 2011. لكن على الرغم من أن الاحتجاجات الفلسطينية لأشهر طويلة والصدامات مع القوات الإسرائيلية على طول الحدود بين غزة وإسرائيل تنذر بتجدُّد بعض الظروف التي قادت إلى اتفاقات أوسلو، إلا أن الإجراءات التي اتُّخِذت على غرار الجدار خفّفت من حدة الضغوط التي تُلقي بها الاحتجاجات على إسرائيل لتقديم تنازلات. وفي ذلك مؤشرٌ عن أن الدبلوماسيين الفلسطينيين لن يتمكنوا من تحقيق مكاسب إضافية في المفاوضات إلا إذا حصلوا على الدعم من مقاومة مسلّحة وناشطة.

خلال العقد المنصرم، عملت الائتلافات الحكومية المتعاقبة برئاسة نتنياهو على بناء مزيد من المستوطنات وتوسيع سيطرتها على الأراضي الفلسطينية إلى درجة غير مسبوقة، من دون أن تُبدي أي اهتمام بمعالجة مسألة عودة اللاجئين الفلسطينيين. وقد تزامنت هذه المستجدات مع تراجع عدد الهجمات الإرهابية، لا سيما بسبب وجود جدار الضفة الغربية الذي بناه رئيس الوزراء السابق أرييل شارون في العام 2002 استجابة للضغوط من الرأي العام الإسرائيلي. على سبيل المثال، شهدت الضفة الغربية، وفقاً للأرقام الرسمية الإسرائيلية، 87 "حدثاً إرهابياً" في العام 2018 مقابل 97 في العام 2017، و169 في العام 2016، و219 في العام 2015. تريد إسرائيل تحقيق نتائج مماثلة في غزة. فحركة حماس هي الفصيل الفلسطيني الأساسي الوحيد الذي يستمر في استخدام استراتيجية مواجهة ضد إسرائيل، عبر استهدافها بانتظام بواسطة الهجمات الصاروخية وحفر أنفاق لتهريب المعدات العسكرية من إسرائيل إلى غزة واستهداف العناصر الأمنيين الإسرائيليين من خلال شن هجمات عبر الحدود.

لا يترك الجدار، عند اكتماله، خيارات كثيرة أمام حماس. أحد هذه الخيارات هو تصعيد أنشطتها شبه العسكرية، بما قد يؤدّي في نهاية المطاف إلى اندلاع حرب جديدة. على الرغم من أن حماس شددت على أنها ستظل قادرة على تهديد إسرائيل بعد الانتهاء من بناء الجدار، إلا أنه ليس واضحاً كيف سيتحقق ذلك، لا سيما إذا تسبب الجدار بقطع طرقات التهريب التي تعوّل الحركة عليها للوصول إلى العتاد العسكري. استناداً إلى تجربة جدار الضفة الغربية، غالب الظن أن إسرائيل ستنجح في جعل التنظيمات على غرار حماس والجهاد الإسلامي تواجه صعوبة أكبر في شن هجمات ضد أراضيها، فيما تحتفظ بالقدرة على شن هجوم على حماس كلما ارتأت ضرورة لذلك. نتيجةً لذلك، إذا أثبت الجدار فاعليته، فلن تكون هناك أسباب أمنية تدفع بحكومة نتنياهو إلى التوجّس من الدعوات الفلسطينية للتفاوض. بدلاً من ذلك، قد تفكّر حماس في اعتماد تكتيكات جديدة غير متكافئة، مثل هجمات الصدم بالسيارات التي تُستخدَم من حين لآخر في الضفة الغربية أو اختطاف الاحتجاجات الواسعة النطاق عند الحدود بين غزة وإسرائيل.

في المقابل، قد تقرّ حماس بأنه لم يعد بإمكان مقاتليها محاربة إسرائيل، ما قد يؤدّي إلى تحوّل دراماتيكي في معتقداتها السياسية والأيديولوجية. استناداً إلى هذا المنطق، سوف تسعى الحركة إلى تجنّب وقوع هجمات إسرائيلية جديدة لأنها ستجد صعوبة في التصدّي لها، لا سيما إذا بدا أن التكتيكات غير المتكافئة لا تحقق أي تأثير. وقد يُتيح وقف العمليات العنيفة لحركة حماس التفاوض على وقف لإطلاق النار مع إسرائيل يدوم طويلاً، ومن شأنه أن يؤدّي إلى تخفيف القيود على دخول المواد الغذائية ومواد البناء والإمدادات الطبية إلى قطاع غزة. ما دامت هذه المطالب تنأى بنفسها عن المطالبة بتنازلات على صعيد الأراضي، فقد تُبدي إسرائيل استعداداً للقبول بها، لا سيما إذا واقفت حركة حماس على وقف أنشطتها شبه العسكرية. غير أن هذا المسار سوف يتسبب بانقسامات كبيرة في صفوف حماس، لا سيما بين جناحها العسكري ومكتبها السياسي، كما أنه لا يحمل أي ضمانة بأن إسرائيل سوف تُقدّم تنازلات في المستقبل، فهي تصرّ باستمرار على إقصاء حماس من جولات محادثات السلام. لقد أشارت حماس، بصورة غير مباشرة في السابق، إلى أنها قد تقبل بحل الدولتَين إذا وافقت أكثرية الفلسطينيين على اتفاق يجري التوصل إليه بهذا الخصوص. لكن مع فرض الأمن عند الحدود، لن يعود لدى إسرائيل سببٌ فعلي يدفعها إلى تقديم أي تنازلات لحركة حماس.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

باسم علي صحافي وباحث يُحضّر لنيل الدكتوراه في العلوم السياسية في جامعة القاهرة. لمتابعته عبر تويتر BaBasem@

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.