المصدر: Getty
مقال

حرب العصابات في السودان

الصدامات العنيفة بين عناصر من قوى الأمن في السودان تهدّد مسار البلاد نحو الديمقراطية.

 سامويل راماني
نشرت في ٢٠ فبراير ٢٠٢٠

في 14 كانون الثاني/يناير، اندلع تبادل كثيف لإطلاق النار في مقر جهاز المخابرات العامة السوداني في الخرطوم. وقد اتهم المسؤولون السودانيون موظفين سابقين في جهاز الأمن والمخابرات الوطني الذي كان قائماً في عهد الرئيس عمر البشير وجرى حلّه لاحقاً، بالتسبب بالصدامات من أجل زيادة قيمة المبالغ التي سيحصلون عليها في إطار تعويضات نهاية الخدمة. وقد سارعت القوات المسلحة السودانية إلى قمع التمرد الذي قاده جهاز الأمن والمخابرات الوطني، غير أن هذه الواقعة أسفرت عن استقالة الفريق أول أبو بكر مصطفى، المدير العام لجهاز المخابرات العامة، في 16 كانون الثاني/يناير.

وعلى الرغم من أن رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، يصر على أن الجيش السوداني استعاد السيطرة التامة على جهاز المخابرات، سلّطت حادثة 14 كانون الثاني/يناير الضوء على الاستقطاب العميق داخل المؤسسة العسكرية السودانية. وقد ظهرت هذه الانقسامات خلال رئاسة البشير الذي عمد، بعد استيلائه على السلطة من خلال انقلاب عسكري في عام 1989، إلى استخدام شبكات المحسوبيات لتقسيم الجيش السوداني حول الخطوط القبلية، وحافظ على السلطة من خلال استغلال الانقسامات العقائدية بين القوميين العرب والإسلاميين داخل القوات المسلحة السودانية. وقد حالت هذه الاستراتيجية القائمة على مبدأ فرّق تسد دون تمكّن الجيش السوداني من شنّ انقلاب ضد البشير إلى أن بات هذا الأخير عاجزاً عن الاحتفاظ بمنصبه بفعل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وتقدّمه في السن. ولكن التفاف الجيش السوداني حول المجلس العسكري الانتقالي بقيادة البرهان في نيسان/أبريل 2019 كان تكتيكياً إلى حد كبير، وأدّت التظاهرات المستمرة إلى إعادة إحياء الانقسامات القديمة داخل المؤسسة العسكرية السودانية.

ظهرت الانقسامات داخل المؤسسة العسكرية بعدما ارتكبت قوات الدعم السريع، وهي منظمة شبه عسكرية تزرع الذعر الشديد، مجزرة أسفرت عن مقتل 128 محتجاً في الخرطوم في 3 حزيران/يونيو. وعلى الرغم من أن انقلاب نيسان/أبريل تسبب بتغييرات واسعة النطاق على مستوى العناصر ذوي الرتب المتوسطة والدنيا في القوات المسلحة السودانية، وكان بينهم عدد كبير من داعمي التظاهرات ضد البشير، وافقت الدوائر المقرّبة من البرهان بتكتّم على ما أقدمت عليه قوات الدعم السريع في 3 حزيران/يونيو، ولكنها ظلت راغبة في التوصل إلى اتفاق مع المعارضة السودانية. وفي 13 حزيران/يونيو، زعم قائد سلاح الجو السوداني، الفريق أول صلاح عبد الخالق، أن المجلس العسكري الانتقالي لا يريد "حكم السودان إلى ما لا نهاية"، وأنه يسعى إلى تحقيق انتقال سياسي في غضون أشهر قليلة. وقد تنافى كلام عبد الخالق التوفيقي مع إصرار قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان "حميدتي" دقلو على أنه لن يتنحى إلا "على جثته".

على الرغم من أنه كان يُتوقَّع على نطاق واسع أن يؤدّي التباين في الآراء بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع بشأن التفاوض مع المعارضة إلى عرقلة الانتقال السياسي في السودان، أفضى اتفاق تقاسم السلطة في 5 تموز/يوليو إلى اكتساب الموقف التوافقي للقوات المسلحة السودانية أفضلية حاسمة. فقد أدّى هذا الاتفاق إلى مأسسة التناوب على السلطة داخل مجلس السيادة بين الفريقَين المدني والعسكري، وفرض إجراء انتخابات في مختلف أنحاء البلاد في سنة 2022. ةمع أن حميدتي وقّع على اتفاق الانتقال الرسمي في 17 آب/أغسطس بحضور مسؤولين على غرار رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد ورئيس جنوب السودان سلفا كير، لا تزال قوات الدعم السريع تعرقل المسار السوداني نحو الديمقراطية.

وقد تسببت هذه القوات بتعطيل الانتقال السياسي في البلاد من خلال تنظيم حركات تمرد دورية واتخاذ إجراءات عدوانية لتدعيم السلطة المؤسسية. وفي 12 تموز/يوليو، شنّت قوات الدعم السريع، كما يُزعَم، محاولة انقلابية أسفرت عن توقيف 12 ضابطاً و4 جنود. وقد ربط الفريق أول ركن، جمال عمر، وهو مسؤول كبير في المجلس العسكري الانتقالي، المحاولة الانقلابية مباشرةً بالقوى المناهضة للعملية الانتقالية، وزعم أن "مجموعة من الأشخاص الذين يرفضون مطالب الشعب" تُهدد الأمن في البلاد. ويُعتقَد أيضاً أن قوات الدعم السريع أدّت دوراً في محاولة انقلابية نُفِّذت في 24 تموز/يوليو وأسفرت عن اعتقال الفريق أول بكري حسن صالح الذي كان نائباً لرئيس السودان من 2013 إلى 2019. وقد أصرّت قوات الدعم السريع على أن عناصر مارقين في الجيش السوداني حرّضوا على شن المحاولتين الانقلابيتين، وانضمت هذه القوات إلى الجيش السوداني في قمع التمرد الذي اندلع في 14 كانون الثاني/يناير. ولكن داعمي الانتقال السياسي لا يزالون يتخوّفون من سلوك قوات الدعم السريع الذي يتسبب بزعزعة الاستقرار.

وقد عمدت قوات الدعم السريع، إلى جانب تقويضها للديمقراطية في السودان من خلال التمرد، إلى توسيع وصولها إلى الموارد الاقتصادية التي من شأنها أن تضمن قوتها المؤسسية في المدى الطويل. وأبرم حميدتي، على الرغم من انتقاده علناً الممارسات الكلبتوقراطية للدوائر المقرّبة من البشير، صفقة مع البشير في أواخر عام 2018، ما أتاح له مصادرة كمية من الذهب بقيمة 30 مليون دولار عن طريق شركته العائلية الجنيد. وتقوم قوات الدعم السريع أيضاً بحراسة مناجم الذهب في دارفور وجنوب كردفان، وحافظت على السيطرة على موارد دارفور الاقتصادية من خلال تدمير خمس وأربعين قرية وتنفيذ عمليات إعدام خارج نطاق القانون. وتمكّنت قوات الدعم السريع، كما يُشاع، من وضع يدها على ملايين اليوروات التي قدّمها الاتحاد الأوروبي في إطار مساعداته المالية إلى السودان، والتي أراد صانعو السياسات الأوروبيون من خلالها الحؤول دون تدفّق موجات من اللاجئين السودانيين إلى أوروبا عن طريق شمال أفريقيا.

على الرغم من أن المرحلة الانتقالية في السودان كانت موضع ثناء دولي واسع، بما في ذلك من أعتى خصوم الثورة السودانية، مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة وروسيا، لا تزال قوى خارجية تدعم الجهود التي تبذلها قوات الدعم السريع لحرف الانتقال الديمقراطي عن مساره الصحيح. تشارك قوات الدعم السريع بفاعلية في التدخل العسكري الذي تقوده السعودية في اليمن، وفي تموز/يوليو 2019، انتشر ألف عنصر من قوات الدعم السريع في ليبيا دعماً للهجوم الذي شنّه خليفة حفتر، زعيم الجيش الوطني الليبي المنضوي إلى جانب الإمارات العربية المتحدة، على طرابلس. وقد أمّنت هذه الحملات العسكرية للدوائر المقربة من حميدتي العملة الصعبة التي هي بأمس الحاجة إليها، وتُشكّل مؤسسات مالية في دبي ملاذاً آمناً لإيرادات الذهب غير المشروعة التي تجنيها قوات الدعم السريع. لقد بنت روسيا علاقات إيجابية مع الحكومة الانتقالية وسعت إلى تصحيح الضرر الذي لحق بسمعتها بسبب قيامها بنشر متعاقدين عسكريين ينتمون إلى جهات خاصة دعماً للبشير، ولكن معارضتها لوجود قوة لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة في دارفور تساهم، على نحوٍ غير مباشر، في تعزيز نفوذ قوات الدعم السريع في تلك المنطقة.

على الرغم من الدعم الخارجي المستمر لحميدتي، يمكن أن يواجه التحدّي الذي ترفعه قوات الدعم السريع في وجه الانتقال الديمقراطي بعض العراقيل الجديدة في الأشهر المقبلة. فالقرار الذي اتخذته السودان بخفض وجودها العسكري في اليمن من 15000 جندي إلى 657 جندياً فقط في 14 كانون الثاني/يناير، يتسبب بتقليص أحد أهم مصادر الإيرادات التي تعوّل عليها قوات الدعم السريع. ويمكن أن تؤدّي مظاهر الاعتراض على مشاركة السودان في الحملات العسكرية الخارجية، مثل الاحتجاجات المتكررة أمام سفارة الإمارات في الخرطوم، إلى مزيد من الانحسار في وجود قوات الدعم السريع في ليبيا واليمن. والقرار الذي اتخذه رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، مالك عقار، بالانفتاح على الخرطوم من أجل وضع حد للنزاع في جنوب كردفان قد يتيح للقوات المسلحة السودانية تحقيق نفوذ أكبر ومقاومة الهيمنة التي تمارسها قوات الدعم السريع. وفي حال أزيل السودان عن القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب ورُفِعت العقوبات المفروضة على البلاد بسبب هذا التصنيف، فقد تحصل الخرطوم على مساعدات مالية من صندوق النقد الدولي. ويمكن أن يؤدّي ذلك إلى تعزيز الثقة العامة بالحكومة المدنية، وإلى تسهيل الإصلاحات الاقتصادية وإقناع الجهات الخارجية الراعية لقوات الدعم السريع بتقديم الدعم إلى المؤسسات الشرعية في البلاد.

لقد أحرز السودان تقدّماً مشجّعاً نحو انتقال ديمقراطي من شأنه أن يدفع بالجيش السوداني إلى العودة إلى ثكناته، ولكن حرب العصابات بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية تُهدّد مستقبل البلاد السياسي. فعملية الانتقال السياسي تتوقف على قدرة الخرطوم على إنهاء النزاعات الأهلية، واستقطاب الدعم الأميركي للإصلاحات الاقتصادية، ووضع حد للتأثير الخبيث الذي تمارسه الجهات الخارجية الراعية لقوات الدعم السريع.

سامويل راماني طالب دكتوراه في قسم السياسة والعلاقات الدولية في كلية سانت أنتوني في جامعة أكسفورد. لمتابعته عبر تويتر @samramani2.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.