تنامى حضور العقيدة الأشعرية، بالرغم من طبيعتها العلمية العقائدية، مع صعود الإسلام السياسي بعد الربيع العربي، صحبة الاستقطاب بين الإسلاميين وغير الإسلاميين، حيث وضعتها أطروحتها العلمية في مقابلة مع تصورات الإسلام الحركي بشكل تلقائي. قام هذا الطرح على عماد أساسي لهذه العقيدة وهو؛ التمييز بين الأفعال والخيارات الاجتماعية وبين الإيمان الاعتقادي، وبالتالي لا يَدل النشاط السياسي والفاعلية الاجتماعية للأفراد على صحة الإيمان ولا تمس به بخلاف طرح الإسلام السياسي. كما قدمت الأشعرية تصورا مركبا لدعوات تطبيق الشريعة، يناقض التصور الحدي للإسلاميين حول غياب الشريعة بالكلية في المجتمعات المسلمة. جذب هذا الطرح الشباب المتطلعين لأطروحة مغايرة لعلاقة الدين بالسياسة، وهو ما عنى إمكانية رفض الانخراط في مشروعات الإسلام السياسي دون أن يُهدد ذلك استقامة الإيمان.
تعزز هذا الحضور مع استعداء موجة العنف الجهادي لجمهور المسلمين ممن أصبحوا هدفا رئيسا للتكفير. تصدرت العقيدة الأشعرية السجال العقائدي وفق مبدأ جوهري آخر لها وهو؛ رفض تكفير المسلمين وعوامهم بالمطلق، والذي لقى صدى لدى القواعد المحافظة المهددَة بالبقاء خارج جادة الإيمان. وأدت الضغوط العالمية والإقليمية للحرب على الإرهاب لإعادة تقييم العلاقات مع أي قوى قد تتلاقى مع تنظيمات الجهاد فكريا بأي شكل، والذي تُرجم في ظهور حالة من عدم الارتياح، وإبقاء مسافة من التيارات السلفية، بما فيها السلمي منها، باعتبارها قنابل موقوتة محتملة عُرضة للتحول الراديكالي العنيف في أي وقت. أثرت هذه الحالة العدائية على حضور التيارات السلفية علميا ودعويا.
عزز هذان التطوران حضور المؤسسات أشعرية العقيدة، كالأزهر والزيتونة والقرويين، ودور الإفتاء الإسلامية الرسمية وصولا لجنوب شرق آسيا، والمدارس العلمية الحرة في الشام واليمن ومصر، وعدد من القيادات الدينية والعلمية البارزة مثل عبدالله بن بيه وعلي جمعة وباعلوي. وقد أقبلت المؤسسات الرسمية منها على التعاون مع المؤسسات المسيحية في مواجهة الإرهاب، مستفيدة من عدم اعتماد الأشعرية مبدأ الولاء والبراء، لرفض العلاقات مع المختلف دينيا، والترويج لذلك.
عمل وجود قيادات دينية ذات التزام استراتيجي بنشر العقيدة الأشعرية على تعزيز التحالف بين المؤسسات الأشعرية وشقيقتها الماتريدية في مجالات التعليم الديني، والدعوة الإسلامية، والنشاط العلمي عبر المؤتمرات المتخصصة، وإنشاء مراكز الأبحاث، وصناعة الطباعة، والنشر. يأتي ذلك مع تراجع جاذبية التيارات الإسلامية العلمية الأخرى لأسباب اجتماعية وسياسية، ولأسباب أخرى تتعلق بتشبع القواعد المسلمة بنتاجات هذه التيارات عبر عقود الصحوة الإسلامية. في المقابل، تستند الأشعرية وروافدها المذهبية على إنتاج علمي كثيف ومتشعب ممتد لقرون لم يصل بعد ذروة الانتشار والتشبع بين جمهور المسلمين. تهدف الأشعرية لاستعادة موقعها بوصفها النسخة الأرثوذكسية للعقيدة، وكونها التيار الرئيس للإسلام لقرون في مقابل التيارات الأخرى الأقل مركزية.
تتجاذب الطبيعة العلمية للصحوة الأشعرية وروافدها المذهبية مع سياق ما بعد الانتفاضات العربية بصور عدة: منها فصل الإيمان عن الفاعلية السياسية؛ تستوعب الأشعرية غير المسيسين المتزايدين بعد هزيمة الربيع العربي، حيث لا تُقيدهم بأي مسؤولية دينية أو مبادرة تجاه التغيرات الهيكلية السياسية لتقييم إيمانهم. بالمثل لا تنحو الأشعرية للصدام مع الموروثات الاجتماعية والممارسات الثقافية للمجتمع، بوضع عقيدته على المحك مهما كانت المآخذ، وهي العقيدة التي قد لا تكون واضحة بمسماها للجمهور العام؛ إلا أن ممثليها ومعالجتهم الاجتماعية في هذا السياق واضحة ومقبولة لدى الجمهور.
تتعزز شرعية الأشعرية كحركة علمية، لا ترتبط بالحسابات السياسية ولا بالدعوات الأيدلوجية، بفضل غياب تصور لنموذج إسلامي للحكم بخلاف الإسلام السياسي. يمثل التراث الأشعري وروافده المذهبية أحد أدوات مراجعة العقد الثوري في أوساط المتعلمين داخل هذا التيار والمستهلكين لإنتاجه، حيث تمتلك المدارس المذهبية للأشاعرة قراءات بارزة متشككة وحذرة تجاه التغييرات الراديكالية وأدواتها خشية نتائجها المفتوحة واللايقين المصاحب لها.
تؤَل أحداث ثورات الربيع العربي بأثر رجعي في ضوء هذه القراءات، والتي يبدو موقفها الآن ذا حجة بالنظر للتغيرات الراديكالية الحادة للانتفاضات التي لم تنته آثارها بعد. يوفر إنتاج هذه المدرسة، خاصة في السياسة، المستند لمحددات واقعية الطابع، وغير أيدلوجية، وبقاء حكمها في هذه المساحة دون المساس بالعقيدة، خطابا عقلانيا لقطاعات وسياق اجتماعي بات متجاوزا للأيدولوجيات؛ وإن كان محافظا. ومع تراجع النقاشات السياسية في مصر، تتجلى آثار الإحيائية الأشعرية في تقديمها أدوات أكثر مرونة وتنوعا للشباب والنساء المتدينين للاشتباك مع القضايا الثقافية والاجتماعية مثل قضايا المرأة.
نوران سيد أحمد، كاتبة من مصر، مهتمة بالقانون والدين وسياسات الرياضة في مصر. وهي باحثة في مشروع السياسة الدولية للإسلام الوسطي، بمؤسسة هنري لوسيه. لمتابعتها على × NouranSAhmed1@.