مُقَدِّمة
يقدّم التفاعل بين القوات المسلّحة الوطنية وقطاع الأعمال الخاص منظورًا مفيدًا للاطّلاع على الديناميات السياسية في الكثير من بلدان ما يُسمّى الجنوب العالمي. يسلّط اتجاهٌ متزايد من الحراك السياسي العسكري – الذي غالبًا ما يكون مصحوبًا بنشاط تجاري عسكري – الضوء على أهمية العوامل المحرّكة والنتائج في هذه العلاقات. واقع الحال أن دور المؤسسة العسكرية، سواءً انخراطها في مجال الأعمال أو سيطرتها على الوصول إلى الثروة والسلطة، يطبع إلى حدٍّ كبير المسارات السياسية لهذه البلدان.
تُبيّن هذه المجموعة من المقالات – التي تشمل بلدانًا في أميركا اللاتينية، وأفريقيا، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا – أن مثلّث السلطة الذي يضمّ القوات المسلحة والقطاع الخاص وقادة الدولة يُعطّل على الأرجح عملية الدمقرطة في الكثير من البلدان أو على الأقل يُعيد توجيهها نحو قنوات خاضعة للسيطرة المشدّدة. وهذا يتنافى مع نظرية الديمقراطية التقليدية، التي تفترض أن تحقيق القطاع الخاص درجات أكبر من الاستقلالية والنفوذ سيؤدّي إلى نشوء تحالفات اجتماعية سياسية داعمة للدمقرطة، وأن تراجع استقلالية القطاع الخاص، على النقيض من ذلك، يقوّض تلك الاحتمالات. يتفاوت التوزيع الدقيق للميزات داخل مثلّثات السلطة هذه، ولكن المحصّلة النهائية في جميع الحالات تتمثّل في الغالب بالحفاظ على ما وصفه دوغلاس سي نورث، وجون جوزيف واليس، وستيفن ب. ويب، وباري ر. وينغاست، بـلقب "أنظمة الوصول المحدود" (limited access orders) التي يعمَد فيها أعضاء مثلّث السلطة إلى الحدّ من وصول القوى الاجتماعية الأخرى إلى الموارد القيّمة (الأرض والعمالة ورأس المال) والأنشطة القيّمة (التجارة والأسواق والخدمات العامة).
تُظهر هذه المقالات أن أنماط العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال الخاص تتأثّر بعوامل عدّة، أحدها هو درجة استقلالية قطاع الأعمال الخاص ومصادرها. على سبيل المثال، قد تكون الأنماط المتباينة للعلاقات بين المؤسسة العسكرية من جهة والجهات الأوليغارشية أو المحسوبة عليها في قطاع الأعمال من جهة أخرى، بمثابة وسيلة بديلة مفيدة لقياس المسارات السياسية. ويتسبّب صعود المؤسسة العسكرية بوصفها جهة فاعلة في قطاع الأعمال، سواءً بشكل رسمي أو غير رسمي، بتعقيد الأمور. وقد يؤدّي ذلك إلى منافسة أو مواجهة مباشرة مع كبار الجهات الفاعلة في قطاع الأعمال، التي ستسعى إلى "تسوية الملعب" الاقتصادي بشكل أكبر، ولكنه قد يشجّع أيضًا على التقاء المصالح مع هذه الجهات في معارضة حقوق العمّال والدمقرطة السياسية والاقتصادية الأوسع نطاقًا والتي من شأنها قلب أنظمة الوصول المحدود المذكورة آنفًا.
تجّلت أهمية هذه الديناميات بوضوح شديد في الحالتَين التاريخيتَين لكلٍّ من البرازيل في سبعينيات القرن العشرين وتشيلي في الثمانينيات منه، حيث جرى التفاوض على الانتقال الديمقراطي بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال (أو ممثّليه السياسيين) بمجرّد أن شعر هذا الأخير بأن استمرار الحكم العسكري سيتسبّب بتقييد مصالحه بدلًا من تعزيزها. وأسفرت دينامية مماثلة عن تدخّل الجيش التركي في العام 1980 من أجل وضع حدٍّ للحراك العمّالي وأعمال العنف بين اليسار واليمين، ثم تسليم الحكومة من جديد إلى المدنيين في العام 1983، الذين اتّبعوا برنامجًا نيوليبراليًّا من الناحية الاقتصادية ومحافظًا من الناحية الاجتماعية، لم يحبّذه الجيش.
مؤخرًا، حين استحوذ الجيش على السلطة من جديد في ميانمار في شباط/فبراير 2021، عارض عددٌ من وجوه قطاع الأعمال البارزين الحكّامَ العسكريين على الرغم من أنهم كانوا ضمن شبكات المحسوبية التابعة لهم حتى الانفتاح الديمقراطي في العام 2010؛ فقد تمكّنوا خلال العقد الفاصل من الخروج من ظل الجيش نحو مسار أكثر استقلاليةً ويمكن وصفه بالأوليغارشي، سعوا خلاله إلى تكوين الثروات وحماية مكاسبهم. في مصر، أبقى النظام المدعوم من الجيش في أعقاب انقلاب العام 2013، على التهميش الذي طال رجال الأعمال المحسوبين على الرئيس السابق حسني مبارك بعد انتفاضة العام 2011، ولكنه حرم في الوقت نفسه الوجوه المستقلة الأوليغارشية في قطاع الأعمال من الاضطلاع بدورٍ في وضع السياسة الاقتصادية، ناهيك عن ممارسة النفوذ السياسي. وقد تخلّى الحزب الحاكم المدعوم من الجيش في أنغولا عن إرث الاحتكار الاقتصادي للدولة من أجل إنشاء قطاع مصرفي خاص محظيّ، في حين أن النظام الجزائري تصرّف على النقيض من ذلك، إذ نظر أوّلًا في الفكرة عبر ترقية مصرفيٍّ واحد من المحسوبين عليه، ثم أسقطه عندما اتّخذ مواقف سياسية مستقلّة. علاوةً على ذلك، شنّ الجيش الجزائري حملة لمكافحة الفساد بهدف احتواء الحراك المؤيِّد للديمقراطية الذي فرض الإطاحة برئيس الجمهورية في العام 2019، ثم إعادة تشكيل الائتلاف الحاكم في أعقاب ذلك، فاستعاد الجيش موقعه حارسًا للثروة والسلطة. وتُظهر المكسيك والسلفادور أن هذا الدور لا يقتصر على القطاعات الاقتصادية النظامية بل قد يشمل أيضًا القطاعات غير النظامية وغير الشرعية، مثل أسواق المخدرات. في جميع الحالات، فإن النفوذ أو رأس المال المتراكم في مجالٍ ما – سواءً كان سياسيًّا أم اقتصاديًّا أم تنظيميًّا – يمكن إعادة استثماره في مجال آخر، ما يوضح أسباب تداخل الحراك السياسي العسكري في الكثير من الأحيان مع الطموحات الاقتصادية، والعكس صحيحٌ أيضًا.
في هذه البلدان وسواها، عكست تنمية القطاع الخاص تشويه اقتصاديات السوق من جانب الأنظمة المدعومة من الجيش أو بفعل التدخل العسكري المباشر. تُظهر الأمثلة أعلاه تباينًا كبيرًا. فقد عبّرت حالات بلدان أميركا اللاتينية وتركيا عن مستويات مرتفعة من تنمية القطاع الخاص، قي حين أن حالات بلدان الشرق الأوسط، إلى جانب قوس دول أفريقيا الغربية والوسطى التي شهدت انقلابات عسكرية منذ العام 2020، كشفت عن تداعيات التنمية المشوَّهة للقطاع الخاص والاستقلالية المقيَّدة بشدّة. وتقع بلدانٌ مثل إندونيسيا وباكستان، وربما ميانمار، في منزلةٍ ما بين المنزلتَين، حيث ثمة قطاعات خاصة متطوّرة نسبيًّا وأوليغارشيون نافذون في قطاع الأعمال، ولكن ثمة أيضًا جيوش معروفة تاريخيًّا بنزعتها التدخّلية (في الميدانَين السياسي والاقتصادي).
يترافق إحياء (أو تكثيف) السياسات الشعبوية والقومية المُغالية في المجموعة الأولى من البلدان مع تطوّر في أنماط وديناميّات التحالفات بين النخب الحاكمة وجيوشها وقطاع الأعمال. أما في المجموعة الثانية (البلدان الشرق أوسطية والأفريقية)، فإن إرث المراحل المتعاقبة من التأميم الاقتصادي والخصخصة غير المنتظمة (تُفاقمه العقوبات الدولية في حالات مثل العراق وليبيا والسودان) جعل من الريع نمطًا اقتصاديًّا أساسيًّا، وولّد رأسماليّة المحسوبيات التي تشلّ طبقة الأعمال وتقوّض دورها كقوّة اجتماعية سياسية. وفي حين أن المؤسسة العسكرية كثيرًا ما اعتبرت القطاع الخاص حليفًا في النظام السياسي الحاكم في أميركا اللاتينية وتركيا، وحتى في باكستان، رأت في بلدان أخرى أن القطاع الخاص منافسٌ سياسي محتمل لها (كما في مصر). وفي هذه الحالات خصوصًا، استغلّ الجيش ضعف كيان القطاع الخاص من ناحية، والتنظيمات الحكومية المؤاتية له من الناحية الأخرى، ليتحوّل إلى جهة توسّعية، وافتراسية في الكثير من الأحيان، في قطاع الأعمال.
ستختلف طريقة تطوّر العلاقة بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال من بلد إلى آخر، ومن قطاع اقتصادي إلى آخر، لكنها ستؤثّر في جميع الحالات على التوجّه الاقتصادي واستراتيجيات النمو، والاتجاهات الاجتماعية، والحوكمة السياسية. فضلًا عن ذلك، يبدو أن هذه الاتجاهات ستستمر، إن لم نقل تتكثّف، عقب الاختلالات في التجارة الدولية والاستثمارات العالمية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا والحرب في أوكرانيا، إذ يتسبّب الركود الاقتصادي والانكماش المالي بتقويض التفاهمات السياسية وترتيبات الحكم التي ارتكزت عليها سابقًا العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال. تركّز هذه المجموعة من المقالات إذًا على هذه العلاقات في ستة عشر بلدًا في الجنوب العالمي، من أجل استنباط رؤى تحليلية وتحديد توجّه ناشئ ذي أهمية سياسية كبيرة لآفاق الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم.
يزيد صايغ باحث رئيسي في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، لبنان.
حمزة المؤدّب زميل غير مقيم في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، لبنان.
التنافس والتعاون والتوتّر:العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال في إيران
بيجان خاجيهبور
مقدّمة
لدى الجمهورية الإسلامية الإيرانية هيكل سلطة شديد التعقيد، ترسم معالمه العلاقات الرسمية وغير الرسمية بين مختلف كياناته. تاريخيًا، سيطرت الحكومة بصورة أساسية على الأنشطة الاقتصادية، إلّا أن طرفَين فاعلَين آخرَين رسّخا دورهما في الاقتصاد على مدى العقدَين الماضيَين وهما: القطاع شبه الحكومي، ومن ضمنه شركات تابعة للمؤسسة العسكرية وغير خاضعة لسيطرة الحكومة؛ والقطاع الخاص. في الوقت الراهن، تسيطر هذه الأطراف الرئيسة الثلاثة على المجال الاقتصادي، على الرغم من تداخل هيكليات ملكيّتها. وقد تسبّب التنافس المستمر على الريع الذي توّزعه الحكومة إلى نشوء علاقات مرنة بين الجهات الفاعلة. نتيجةً لذلك، ضعفت قبضة الحكومة على الاقتصاد وطرأ تحوّلٌ على موازين القوى السياسية.
في إيران، تشكّل المؤسسات العسكرية، المنظّمة حول ثلاثة فروع مستقلة هي الجيش النظامي، والحرس الثوري الإسلامي الإيراني، وقوات الأمن الداخلي، مجموعةً متداخلة ومعقّدة من الوحدات والمسؤوليات وخطوط المساءلة المختلفة.1 مع أن المؤسسة العسكرية تتلقّى مخصّصات من ميزانية الدولة، يُسمَح لها أيضًا بالانخراط في الأنشطة التجارية.
أما قطاع الأعمال فمتعدّد الأوجه بصورة أكبر حتى، إذ يشمل المؤسسات العامة (المملوكة للحكومة)، والكيانات شبه الحكومية (بما فيها المؤسسات الدينية والعسكرية والثورية)،2 والشركات الخاصة. وتنقسم هذه الأخيرة بدورها إلى طبقة التجار التقليدية، التي تربطها علاقات وثيقة برجال الدين، وطبقة الصناعيين الجدد المرتبطة بما يمكن وصفه بتكنوقراطية الحكومة.
يُظهر تداخل العلاقات الرسمية وغير الرسمية بين القطاعات الآنف ذكرها مدى ترسّخ مكانة الكيانات العسكرية داخل هيكل السلطة الإيراني. لقد عمَد قادة عسكريون سابقون، ولا سيما من صفوف الحرس الثوري، إلى تخصيص موقع مميّز لهم داخل المؤسسة السياسية، لكن حضورهم ونفوذهم في مجتمع الأعمال ليسا واضحَين بالقدر نفسه.3 مع ذلك، أثّرت وتيرة انخراط القادة العسكريين في قطاع الأعمال بشكل كبير على ثقافة الأعمال في البلاد، وبدّلت موازين القوى بين المؤسسة العسكرية، وخصوصًا الحرس الثوري، والجهات الفاعلة غير العسكرية.
تشهد العلاقة بين الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية والكيانات الأخرى، ولا سيما داخل القطاع الخاص، الكثير من التوتّر. وقد أشارت دراسات عدّة إلى أن أنشطة هذه الجهات تقيّد عمل الشركات الخاصة، ولا سيما أن عليها في بعض الأحيان التعاقد من الباطن أو حتى الدخول في شراكة مع المؤسسات العسكرية من أجل الاستمرار في ممارسة أعمالها. نتيجةً لذلك، نشأت علاقة مرنة جمعت بين التنافس والتعاون، وتخلّلتها من حين إلى آخر ممارسات فاسدة.
لا يشكّل الدور المتنامي للمؤسسة العسكرية في اقتصاد البلاد تحوّلًا كميًا يتمثّل في تقليص دور الحكومة فحسب، بل أيضًا تحوّلًا نوعيًا في طريقة توزيع السلطة. لقد خسرت الحكومة الهيمنة الاقتصادية التي اكتسبتها من خلال التحكّم بالثروة النفطية وتوزيع الريع بين الجهات الفاعلة الأخرى مقابل ولائها. وفي المقابل، اكتسبت المؤسسة العسكرية قدرة كبيرة للتأثير على مصالح الأطراف الأخرى داخل القطاعات العامة، وشبه الحكومية، والخاصة. وأدّى التفاعل بين مختلف هذه القوى إلى التنافس حينًا، والتحالف حينًا آخر، وتوزيع الريع، وانتشار المحسوبيات، وبروز علاقات متوتّرة على مختلف المستويات.
الدور المتنامي للمؤسسة العسكرية في قطاع الأعمال
اقتصر دور الجيش الإيراني قبل العام 1979 على المهام الدفاعية والأمنية، لذا كانت أنشطته الاقتصادية محدودة للغاية. لكن عملية بناء الدولة في مرحلة ما بعد الثورة، التي استندت إلى دستور مصمّم لتقسيم السلطة، ناهيك عن المجهود المبذول خلال الحرب الإيرانية العراقية في ثمانينيات القرن الماضي، سمحا للقطاع العسكري بالتمتّع بنفوذ كبير داخل مفاصل الدولة الاقتصادية.
ووفقًا للمادة 150 من الدستور الإيراني، إن الحرس الثوري هو الوصي على "الثورة ومكاسبها" – ولا يقتصر دوره على المستوى العسكري، بل يتعدّاه أيضًا إلى جميع المجالات الأخرى. حتى إن دستور الحرس الثوري في ذاته، الذي أصبح قانونًا في العام 1982، يشير إلى جوانب تتجاوز إلى حدٍّ بعيد مجرّد الاضطلاع بمهام عسكرية ودفاعية. وقد اتّسع نطاق هذه المجالات أكثر ليشمل أيضًا التطوّر الاقتصادي والتكنولوجي، وهو كان المبرّر لانخراط الحرس الثوري في القطاعات الاقتصادية.
لم يتسبّب قيام الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين بغزو إيران في العام 1980 بتعطيل عملية بناء الدولة فحسب، بل أدّى أيضًا إلى تسخير جميع الوسائل في المجهود الحربي، وتمويل تطوير القطاع العسكري، ولا سيما الحرس الثوري. ألحقت الحرب أيضًا أضرارًا جسيمة بالقطاع الصناعي والبنية التحتية في إيران، وتطلّبت إعادة الإعمار بعد الحرب خلال العقد الذي تلاها استخدام القدرات التصنيعية والهندسية الكبيرة للحرس الثوري. وبالتالي، استطاعت المؤسسة العسكرية، وخصوصًا الحرس الثوري، خلال السنوات اللاحقة، تعزيز قدراتها في قطاعات البنى التحتية والصناعة في البلاد. وسهّلت هذه العملية بروز شركات مثل شركة "خاتم الأنبياء"، التي تُعدّ راهنًا أكبر تكتّل للمقاولات في البلاد، وتُشرف على مشاريع إنشائية ضخمة مثل شبكة خطوط أنابيب الغاز في البلاد.
الواقع أن الحرس الثوري استخدم قدراته المرتبطة بالحرب ليصبح أكبر متعاقد من الباطن لمشاريع البنية التحتية والبناء في البلاد. ليس في مقدور الشركات الخاصة المتعاقدة من الباطن منافسة المؤسسة العسكرية بما لديها من موارد مالية وبشرية وسياسية. يُشار إلى أن الحرب لم تسهم وحدها في جعل الحرس الثوري الطرف المهيمن في المشهد الاقتصادي الإيراني، كما يزعم كثرٌ الآن، إلّا أنها ساهمت في النفوذ المتنامي للقطاع العسكري.
لم يتوقف توسّع نفوذ الحرس الثوري في المجال الاقتصادي عند هذا الحدّ، بل استفاد من عملية إضفاء الطابع الأمني على الكثير من الأنشطة الاقتصادية (الأمننة) من أجل السيطرة على قطاعات مهمة، مثل قطاع الاتصالات. ومع أن الحرس الثوري باع أسهمه في شركات اتصالات كبرى في العام 2018 لتخفيف احتمال فرض عقوبات عليها، فإنه لا يزال يتمتّع بنفوذ قوي في عددٍ من القطاعات، ولا سيما تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتكنولوجيا الإعلام. وفي بعض الحالات، أسّست الشركات التابعة للحرس الثوري شركات صُوَرية في دول مجاورة للالتفاف على العقوبات. واستخدم الجيش أيضًا أمننة العمليات التجارية لاحتواء العقوبات. وتولّى الحرس الثوري مهمة إدارة العمليات التجارية والنقل والأنشطة المالية التي كانت تضطلع بها سابقًا شركات عامة وخاصة. وتشوّشت عند هذه النقطة الخطوط الفاصلة بين التنافس والتعاون، وأتاحت مثل هذه الأنشطة المجال أمام تفشّي الفساد، ولا سيما ظاهرة غسل الأموال.
عجز الحكومة عن الموازنة بين المصالح
تُعَدّ الحكومة الإيرانية قوة اقتصادية رئيسة في البلاد، ومع ذلك لم تضطلع قطّ بدورٍ بنّاء في إرساء بيئة تنافسية إيجابية في السوق، لا بل إن أفعالها قوّضت التنمية الاقتصادية السليمة.
فهي مثلًا تحوّل الأسهم إلى صندوق تقاعد القوات المسلحة (المعروف بـ"ساتا"، أي منظمة الضمان الاجتماعي للقوات المسلحة الإيرانية)، من أجل تسوية مستحقّاتها للمؤسسات العسكرية. هذه العملية تحوّل "ساتا"، وغيرها من صناديق التقاعد شبه الحكومية، إلى تكتّلات كبيرة من الشركات التي لا علاقة لها على الإطلاق بالقطاع العسكري، ما يشوّه فعليًّا البيئة التنافسية.
إضافةً إلى ذلك، أعلنت الحكومة الإيرانية في كانون الأول/ديسمبر 2022 أنها ستسدّد ديونها لشركات السكك الحديدية والطرق المتعاقدة معها من الباطن عبر مخصّصات النفط الخام أو المنتجات النفطية، مفسحةً المجال بذلك فعليًّا لشركاتٍ مثل شركة "خاتم الأنبياء" بالدخول في قطاعاتٍ كانت في السابق حكرًا على الحكومة (مثل تجارة هذه المنتجات عينها). فكانت النتيجة أن ازداد عدد الجهات الفاعلة في مختلف الأنشطة المشبوهة والفاسدة في قطاع الأعمال.
أما إحدى المرّات الوحيدة التي ساهمت فيها جهودُ الحكومة في إرساء بيئة أكثر تنافسية، فكانت حينما أوعزت الحكومة إلى مؤسسات عسكرية عدّة بدمج المصارف التابعة لها في ثاني أكبر مصرف تجاري في البلاد، أي بنك "سبه"، لفتح مساحة في السوق أمام المصارف الخاصة بحقّ.
معظم محاولات الحكومة من أجل إتاحة مجال تنافسي أكبر لمجتمع الأعمال باءت بالفشل. فعلى سبيل المثال، طلبت الحكومة من الحرس الثوري، في العام 2013، حصرَ أنشطته الاقتصادية بالمشاريع التي تزيد قيمتها عن 200 مليون دولار بغية إتاحة المزيد من الفرص أمام القطاع الخاص. ولكن في ظل غياب سياسة تنافسية شاملة لتعزيز القطاع الخاص، ستذهب الفرص بمعظمها إلى القطاع شبه الحكومي، نظرًا إلى وصوله إلى الموارد المالية والبشرية. وسعيًا إلى وضع هذه الشركات على قدم المساواة من الناحية التنافسية مع الشركات الخاصة، كان على الحكومة أيضًا أن تتوقّف عن إعفاء الشركات شبه الحكومية والعسكرية من الضرائب، بحيث عُدِّلَت الأنظمة على وجه الخصوص في العام 2020 لفرض الضرائب على المؤسسات شبه الحكومية والعسكرية. لكن التقييمات الأوّلية تُظهِر أن السلطات لا تزال تُعامِل القطاع شبه الحكومي معاملةً تفضيليةً تماشيًا مع الثقافة السياسية العامة القائمة على تعزيز الشبكات التابعة للسياسيين.
التوتّرات الكامنة في قطاع الأعمال
لا يخضع القطاع شبه الحكومي الإيراني لسيطرة الحكومة، وهو إذًا يختلف عن القطاع العام. والواقع أن إيران تنفرد بأن قطاعها شبه الحكومي أكبر بكثير من قطاعها العام.4 ومن بين العدد الكبير من الكيانات التي تُعَدّ "تحت إشراف الدولة"، والتي لا تقع تحت مظلّة الحكومة، نذكر مثلًا المؤسسات الدينية والثورية والعسكرية التي تديرها هيئات مثل مكتب المرشد الأعلى. يبقى تأسيس هذه الكيانات شبه الحكومية، وملكيّتها، وتشغيلها، أمرًا مبهمًا للغاية إلى حدّ أنها تمثّل، كما يُقال، "اقتصاد الظلّ" في البلاد. هذا الإبهام يتجذّر جزئيًا في ثقافة الغموض العامة في إيران، ولكن أيضًا في قدرة المؤسسات على إخفاء بعض أنشطتها الاقتصادية تحت ستر العمل الخيري أو "المهام الثورية"، مثل دعم الطبقات الاجتماعية المحرومة.
أما القطاع العام فواضح، حيث المؤسسات الحكومية تشملها الميزانية السنوية التي تضعها منظمة التخطيط والميزانية التابعة للحكومة وتشرف عليها. يُعَدّ هذا القطاع من الاقتصاد إذًا شفّافًا نسبيًا، وخاضعًا لتدقيق مختلف المؤسسات التنظيمية، ولا سيما أن عددًا كبيرًا من الشركات التي تديرها الدولة أُدرِجَت في بورصة طهران خلال عملية الخصخصة.
لكن الصورة تصبح ضبابية ما إن نلقي نظرة فاحصة على القطاع شبه الحكومي. فصحيحٌ أن أكبر المؤسسات والتكتّلات لها وجود على الإنترنت، إلا أن أنشطتها والحقائق المتعلّقة بملكيّتها عادةً ما تكون مُبهَمةً عمدًا. تسمح علاقات الملكيّة الغامضة لهذه المؤسسات شبه الحكومية بالعمل بعيدًا عن الأنظار، والتهرّب من الضرائب، والانخراط بأنشطة اقتصادية غير مشروعة، وهو ما يتيح لها أيضًا مساحةً محميّةً لبناء شبكات زبائنية عن طريق استمالة الشركات الخاصة.
يشوب أنشطة الشركات الخاصة الكثير من التوتّر،5 إذ يعتقد الخبراء أن الكيانات التابعة للقطاعَين العسكري والأمني ترغم هذه الشركات، بحسب القطاع الاقتصادي، على التنازل عن بعض أسهمها لصالح أصحاب المصلحة الأكثر نفوذًا. وكلّما كان القطاع دقيقًا أكثر، سعت الكيانات شبه الحكومية جاهدةً أكثر إلى استمالة هذه الشركات.
العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال
تشكّل العلاقات بين القطاع الخاص والمؤسسة العسكرية لغزًا متعدّد الأبعاد. فقد قوّض الدور المتنامي للكيانات العسكرية في الأنشطة التجارية كلًّا من القدرة التنافسية والتنمية السليمة لمجتمع الأعمال في إيران. هذا وأدّى تعدّد الجهات الفاعلة الاقتصادية، وتعقيد الأجندات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلى تنوّعٍ في ديناميات العلاقات.
التنافس والتعاون
أدّت عملية الخصخصة الزائفة، على مدى العقود الثلاثة الماضية، فعليًا إلى تحويل ملكيّة عددٍ كبير من الهيئات الحكومية السابقة إلى القطاع شبه الحكومي. كذلك، اقتحمت الكيانات العسكرية بعض القطاعات، مثل قطاع الاتصالات، بسبب المخاوف الأمنية كما زُعِم. أما في قطاعات أخرى، مثل قطاع النفط، فأبدت الهيئة التكنوقراطية للحكومة تردّدًا في عقد شراكات مع الكيانات العسكرية، لكنها شملت المؤسسة العسكرية بالريع من خلال استخدام هذه الكيانات كشركات متعاقدة من الباطن على حساب شركات أخرى.
لا بدّ من الإشارة إلى أن العلاقات بين الحكومة، والقطاع شبه الحكومي، والمؤسسات العسكرية هي علاقات مرنة. عمومًا، ثمّة قدرٌ كبير من التعاون بين القطاعَين العسكري وشبه الحكومي، نظرًا إلى أن معظم الكيانات شبه الحكومية يرأسها قادة سابقون في الحرس الثوري. هذه الروابط ترسي شعورًا بالثقة والانتماء، ويمكن أن تؤدّي إلى قيام روابط تجارية ومالية، ولكنها في معظم الحالات تفضي أيضًا إلى عقليّة الأخذ والعطاء. غالبًا ما يتمتّع هؤلاء القادة بأمر واحد يفتقر إليه الكثير من شبكات النفوذ الأخرى في إيران، وهو ثقة أعضاء الشبكات. هذه ميزةٌ تساعد الكيانات شبه الحكومية على إنشاء تحالفات قد تكون مفقودة في الشراكات الأخرى.
وقد أدّى هذا الشعور بالانتماء حتى إلى إنشاء مؤسسات مثل "بنياد تعاون"، وهي "مؤسسة تعاونية" يملكها قادة في الحرس الثوري، تستخدم عملية الخصخصة الحكومية لتوسيع المصالح الاقتصادية. في الوقت نفسه، يملك هذا التكتّل شركات تتنافس مع شركات خاصة في مختلف القطاعات، لا في مجال الدخول في مناقصات على الكيانات المُخصخَصة فحسب، بل أيضًا في إجراء الأنشطة في أسواقها الخاصة.
على الرغم من القدر الكبير من التعاون، لا يزال القطاع شبه الحكومي والمؤسسة العسكرية يتنافسان بانتظام حول المصالح التي توزّعها الحكومة (مثل الخصخصة أو مشاريع البنية التحتية). وفي الكثير من هذه الحالات، يدخل الجانبان في نهاية المطاف في نوع من الشراكة أو المشاريع المشتركة. وهكذا، يؤدّي تعاونهما إلى إضعاف دور الحكومة في الاقتصاد، وإلى سحق شركات خاصة لا يتيح لها حجمها الصغير تولّي مشاريع البنية التحتية الأكبر حجمًا.
كذلك، أرغم التعاون الوثيق بين الجيش والكيانات شبه العسكرية بعضَ المسؤولين الحكوميين السابقين إلى عقد الشراكات مع مؤسسات القطاع الخاص بهدف تأمين بديل ناجع. ويتجلّى ذلك أكثر ما يتجلّى في قطاع النفط، حيث يؤكّد التكنوقراط الحكوميون سرًّا أنهم يستخدمون التهديد بالعقوبات للحؤول دون توطّد العلاقات بين الكيانات شبه الحكومية والعسكرية، وهو ما قد يضرّ بالعمليات الدولية للمؤسسات الإيرانية.
التنافس والتوتّر والفساد
ما لا يرقى إلى الشكّ أن القوة الاقتصادية المتنامية للمؤسسة العسكرية أضرّت بالشركات غير العسكرية. ففي بعض القطاعات الكبرى، خصوصًا صناعة السيارات والآلات الثقيلة والبناء، يواجه صناعيو القطاع الخاص منافسة شديدة من الشركات التابعة للجيش في المناقصات الحكومية. ولأن التصوّر العام هو أن الفرص المربحة متاحةٌ بشكل أساسي للكيانات شبه الحكومية والمؤسسة العسكرية، غالبًا ما لا تجد الشركات الخاصة خيارًا أمامها سوى عقد الشراكات مع منافسيها. فإنشاء اتحادات ذات صلة بمشاريع معيّنة قد يكون السبيل الوحيد لبعض الشركات الخاصة للاستحصال على المشاريع.
يُضاف إلى ذلك أن شبح العقوبات الخارجية يلوح في الأفق بشكل كبير، ولذا يرغب الكثير من الصناعيين في تجنّب إقامة علاقة أوثق بالجيش. لهذا السبب، يجد صناعيو القطاع الخاص أنفسهم عالقين بين مطرقة توقّعات الكيانات شبه الحكومية والعسكرية، وسندان العقوبات الخارجية. وهنا يتسلّل الفساد، إذ إن الانخراط في الصفقات الفاسدة مع المسؤولين الحكوميين قد يكون السبيل الوحيد للفوز بمناقصة ما، من دون الدخول في شراكة غير مرغوب فيها.
وما يزيد الأمور تعقيدًا أن الكيانات العسكرية، ولا سيما الحرس الثوري، تستخدم أحيانًا الاتهامات ذات الصلة بالأمن ضدّ أصحاب الشركات المربحة وسيلةً للحصول على أسهمٍ في هذه الشركات. وقد حدث هذا الأمر مؤخّرًا في شركات ناجحة ناشئة وقائمة على المعرفة، بحيث كانت الخيارات التي أُتيحَت لها إما التنازل عن بعض أسهمها للجيش أو المؤسسة الأمنية، وإما مواجهة المزيد من الاتهامات التي تقوّض عمليّاتها. وقد اختارت بعض الشركات الانتقال إلى بلدان أخرى، فيما بقيت شركات أخرى في مواجهة خيار صعب.
التنافس والزبائنية
على خلاف الصناعيين، لم يتأثّر التجّار التقليديون، المعروفون بالبازاريين، سلبًا بدور الجيش المتنامي في الاقتصاد. فاللافت أن الرابط التاريخي الوثيق بين رجال الدين والتجّار التقليديين أتاح قدرًا من الحصانة ضدّ "تنمّر" الكيانات التابعة للجيش، ما يعني أن الزبائنية السياسية تصبّ في صالح هؤلاء التجّار.
ويُستخدَم مفهوم الزبائنية نفسه عندما تحاول بعض الشركات تخفيف حدّة التنمّر الذي تتعرّض له، من خلال عقد شراكات مع الشركات الحكومية. قد لا يمنع ذلك المؤسسة العسكرية من التنافس بشدّة مع هذه الشراكات، إلا أنه يحدّ عادةً من مدى إرغام الشركات على الانضمام إلى تكتّلات لا ترغب فيها.
خلاصات
ما من نموذج واحد فقط للعلاقات بين المؤسسة العسكرية وكيانات مجتمع الأعمال في إيران، ذلك أن طبيعة العلاقات وبنيتها تعتمدان على مجموعة من العوامل المعقّدة، ولكن المترابطة، التي تتداخل إلى حدٍّ كبير مع المشهد السياسي العام.
تخوض إيران عمليات تغيير داخلية وخارجية مهمّة. فعلى الصعيد الداخلي، شهدت البلاد اضطرابات اجتماعية واسعة النطاق، وهي تخوض مسارًا مطوّلًا لخلافة المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، إذ تشير الدلائل إلى أن هيكل السلطة السياسية ما بعد خامنئي سيحتاج إلى إصلاح لاستعادة قدرٍ ما من الشرعية. أما على الصعيد الخارجي، فتواجه البلاد تحدّيات جيوسياسية كبيرة، وتركّز على جوارها المباشر، فيما تصطفّ أكثر مع القوى الشرقية. في موازاة ذلك، تستمرّ العقوبات الخارجية في تقويض التنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلاد.
ولا شكّ في أن النفوذ العسكري في قطاع الأعمال سيتعاظم نظرًا إلى التحدّيات الأمنية الداخلية والخارجية المتواصلة، ما سيحوّل ميزان القوى بعيدًا عن الحكومة أكثر فأكثر ونحو القطاع شبه الرسمي، بما في ذلك المؤسسة العسكرية. ومن المرجّح أن يكون لميزان القوى الجديد بين الحكومة والكيانات شبه الحكومية تأثيرٌ مباشرٌ على واقع الاقتصاد والأعمال في البلاد، حيث سيحاول كلا القطاعَين استمالة الشركات الراسخة لترجيح كفّة ميزان القوى لصالحهما. وفي حال استمرّت اتّجاهات العقود الماضية، فستضعف الحكومة أكثر، وستواجه الشركات الخاصة قيودًا متزايدة. هذا وستركّز الحكومة على استراتيجيتها المفضّلة المتمثّلة في توطيد العلاقات السياسية والتجارية مع القوى الإقليمية والشرقية.
يدلّ كلٌّ من تعقيدات هيكل السلطة العام، والحدود المبهمة بين مختلف القطاعات، على أن التحوّلات غير المتوقّعة قد تحدث دائمًا، ولكن في الوقت الراهن سيتشكّل واقعُ قطاع الأعمال في إيران بتأثيرات العقلية الإيديولوجية المتمحورة حول الأمن والمحسوبيات، التي تتبنّاها مؤسسةٌ عسكريةٌ ستسعى إلى تعزيز سلطتها أكثر للهيمنة على المشهدَين السياسي والاقتصادي في البلاد. وفيما ستقبل السلطة الحاكمة بوجود شركات خاصة ناجحة في قطاعات محدّدة، ستفرض هيمنتها على الصناعات الرئيسة كافة بهدف الحفاظ على السيطرة باسم أمن النظام. في المقابل، سيكون على الشركات الخاصة أن تستمرّ في محاولات التغلّب على القيود المحلية والعقوبات الخارجية من أجل البقاء.
بيجان خاجيهبور خبير اقتصادي مقيم في فيينا، ومستشار استراتيجي متخصّص في الجغرافيا السياسية للطاقة والاقتصاد الإيراني.
من التحالف مع الجيش إلى الزبائنية مع الحزب الحاكم:تبدّل علاقة القطاع الخاص مع القوات المسلحة في تركيا
غابرييلا أنوك كورتي-رِيال
خاضت العلاقات بين الجيش التركي والقطاع الخاص عملية إعادة تشكيلٍ كبرى منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في العام 2002. حين وضع هذا الحزب حدًّا للهيمنة السياسية التي مارستها القوات المسلحة التركية طوال عقود، أطاح أيضًا بالدور الذي كانت تضطلع به القوات المسلحة كجهة ناظمة وحامية للنموذج الرأسمالي التركي، وأيضًا كجهة فاعلة قائمة بذاتها في سوق القطاع الخاص. نتيجةً لذلك، تحوّل التواطؤ المؤسسي الذي كان قائمًا بين القوات المسلحة التركية ونخب الأعمال العلمانية المتنفّذة إلى شبكة أكثر تعقيدًا من العلاقات في ظل المشهد الاقتصادي السياسي بين الجهات الفاعلة الإسلامية والعلمانية في قطاع الأعمال وبين حزب العدالة والتنمية الحاكم. لكن على الرغم من الآمال التي عُقدت في البداية على عملية دمقرطة السياسة التركية، فرض حزب العدالة والتنمية سيطرة مدنية لا لُبس فيها على القوات المسلحة، فاستُعيض عن النظام العسكري السلطوي بنظام مدني وشخصاني يستند إلى النفوذ القوي والمركزي الذي يضطلع به الرئيس رجب طيب أردوغان.
توافرت عوامل عدّة كانت أساسيةً في تحقيق هذا التحوّل السياسي، وهي تحديدًا سيطرة حزب العدالة والتنمية على الموارد الاقتصادية التابعة للقوات المسلحة التركية (بما في ذلك الأصول الخاصة) من العام 2016 وصاعدًا، إضافةً إلى زيادة الإنفاق الدفاعي، وسعي أردوغان في موازاة ذلك إلى تعزيز قطاع الدفاع المحلي. وقد ساعد ذلك الرئيسَ على استخدام الزبائنية لتوسيع قاعدة مناصريه في مجال الأعمال وتعزيز شبكات المحسوبية التابعة لحزب العدالة والتنمية، ما فاقم التحوّل السلطوي في البلاد. إن إعادة توزيع رأس المال العسكري استنادًا إلى اعتبارات سياسية حدّت بشكلٍ أكبر من استقلالية قطاع الأعمال وأسفرت عن طمس الفوارق التقليدية بين مجموعات كانت متمايزة عن بعضها البعض في السابق، مثلًا بين رجال الأعمال المتديّنين ونظرائهم العلمانيين، وبين رأس المال القائم على الزبائنية وذاك الخاضع إلى سيطرة نخب متنفّذة، وبين جمعيات الأعمال المؤيّدة للاتحاد الأوروبي وتلك المناهضة للغرب. إذًا، صحيحٌ أن فرض السيطرة المدنية على الحكم في تركيا منذ العام 2002 تنافى مع المنحى العام الذي شهدته أجزاء أخرى من الجنوب العالمي – حيث انخرط الجيش على نحو نشط في المجال السياسي وقطاع الأعمال – إلّا أن هذه العملية ساهمت أيضًا في إعادة تصوّر العلاقات الاجتماعية بشكلٍ أدّى إلى توطيد أركان السلطوية بدل أن يصبّ في صالح تعزيز العملية الديمقراطية.
التعاون التنافسي بين نخب الأعمال العلمانية والمؤسسة العسكرية
منذ تبوُّؤ حزب العدالة والتنمية سدة الحكم، تحوّلت العلاقات بين القوات المسلحة التركية والقطاع الخاص بشكل جوهري - وربما تبدّلت بالكامل - مقارنةً مع ما كانت عليه في الفترة الممتدّة من الانقلاب العسكري في العام 1960 إلى الأزمة المالية في العام 2001. فحتى العام 2001، جمعت القوات المسلحة التركية بين دورَين مختلفين في الاقتصاد السياسي، فكانت بمثابة جهة حامية وناظمة لنموذج رأسمالي ينطبع بشحٍّ نسبي في الرساميل وبصناعات محلية وليدة، فيما أصبحت أيضًا جهة فاعلة قائمة بذاتها في قطاع الأعمال. وقد اتّسمت هذه المرحلة بـ"التعاون التنافسي" – وهو مزيجٌ من التعاون والتنافس – بين القوات المسلحة التركية، ونخب الأعمال العلمانية التي تمثّلها جمعية الصناعة والأعمال التركية (TÜSIAD) منذ العام 1971. وارتكز هذا التعاون على مصلحة مشتركة في الحفاظ على سوق محلية تحتكرها القلّة، وفي ما اعتبره الطرفان غربنةً للقيم السياسية والاجتماعية التركية.
تُقدّم هيئة التضامن العسكري (OYAK) مثالًا عن التشنّج الذي شهدته القوات المسلحة التركية خلال تلك العقود الأربعة بين ما تتمتّع به من مواقع قوّة وموارد مالية من جهة، وعلاقاتها الملتبسة مع نخب الأعمال العلمانية من جهة أخرى. فالهيئة التي أُنشئت في العام 1961 خلال الحكم العسكري تحوّلت إلى تكتّل تركي رئيس في القطاع الخاص، وهي أيضًا صندوق تقاعد للمؤسسة العسكرية، تموّله جزئيًّا الاشتراكات الإلزامية من العسكريين. وكانت هيئة التضامن العسكري، منذ تأسيسها وحتى العام 2001، خصمًا وشريكًا على السواء للأعضاء المؤسِّسين لجمعية الصناعة والأعمال التركية؛ على سبيل المثال، وعلى الرغم من المنافسة المستمرة بين هذه المؤسسة وتكتّل الشركات الخاصة "كوتش" (Koç) )إلى جانب شركة "رينو" (Renault) الفرنسية، شريكة هيئة التضامن العسكري، وشركة "فيات" (Fiat) الإيطالية، شريكة "كوتش")، كانا على مدى عقدَين من الزمن تقريبًا جهتَين فاعلتَين رئيستَين في تطوير صناعة السيارات المحلية في تركيا. وقد استفادا، خلال ما عُرف بمرحلة الصناعة الوليدة في هذا القطاع، من إجراءات الحماية التي وفّرتها الدولة في مواجهة الضغوط التنافسية، ما ضمن تراكمًا رأسماليًّا كبيرًا لشركة "كوتش" القابضة وهيئة التضامن العسكري وشركائهما الأوروبيين. وعلى نحو مماثل، استفاد أعضاء جمعية الصناعة والأعمال التركية من التدخل غير المباشر للقوات المسلحة في العام 1997، المعروف بـ"انقلاب ما بعد الحداثة"، الذي هدف إلى التصدّي للتحدّي المتنامي الذي مثّلته الجهات الفاعلة السياسية الإسلامية، بما في ذلك جمعية الصناعيين ورجال الأعمال المستقلين (MÜSIAD)، التي تأسست في العام 1989.
أدّى الانفتاح التدريجي للاقتصاد التركي، الذي تسارع بفعل انضمام تركيا إلى الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي في العام 1995، إلى تعزيز استقلالية القطاع الخاص عن القوات المسلحة التركية. يُضاف إلى ذلك أن إدماج الشركات المنتسبة إلى جمعية الصناعة والأعمال التركية في سوق الاتحاد الأوروبي وفي سلاسل الإمداد العالمية أتاح للقطاع الخاص التركي تحقيق النضوج الرأسمالي بفضل التنافسية المتنامية والوصول المباشر إلى الأسواق المالية الدولية. وبحلول العام 2002، أصبح رجال الأعمال المنتسبون إلى جمعية الصناعة والأعمال التركية من كبار الرأسماليين خارج السوق التركية والوكلاء الأقوى للأَوْرَبة في تركيا. وأفضى ذلك إلى استقلالية أكبر عن الدولة التركية، وفي نهاية المطاف، عن القوات المسلحة. فقد بات الحلفاء السابقون للقوات المسلحة من رجال الأعمال العلمانيين ينظرون إلى الدولة والقوات المسلحة بأنهما عائقٌ أمام النمو الاقتصادي والعولمة أو حتى بأنهما يشكّلان تهديدًا للاستقرار السياسي، وتبعًا لذلك تحوّلوا إلى الاصطفاف حول حزب العدالة والتنمية. وقد مهّد ذلك الطريق لتحالف جديد بين جمعية الصناعة والأعمال التركية، وحزب العدالة والتنمية الإسلامي الصديق للأعمال الذي كان قد تأسّس حديثًا، وجمعية الصناعيين ورجال الأعمال المستقلين في أعقاب الأزمة المالية الحادّة في العام 2001. وقد دفع هذا التحالف بحزب العدالة والتنمية إلى تحقيق فوز ساحق في الانتخابات العامة في العام 2002، ما مكّنه من تشكيل أول حكومة أكثرية منذ عشر سنوات، ثم اعتماد الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي طلبها كلٌّ من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، والتي ساهمت في انطلاق مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في العام 2005.
نتيجةً لذلك، تمكّنت حكومة حزب العدالة والتنمية من المضي قدمًا بتنفيذ برامج الخصخصة الواسعة النطاق التي كانت المعارضة الداخلية الشديدة، ومن ضمنها معارضة القوات المسلحة، قد تسبّبت بتعطيلها منذ العام 1986. وخلال العقد التالي، شكّلت الجهات الفاعلة الإسلامية والعلمانية في قطاع الأعمال وحكومة حزب العدالة والتنمية تحالفًا جديدًا مواليًا للاتحاد الأوروبي وقائمًا على الاعتماد المتبادل، والخصخصة، وعقود الشراء العام. وعاد نقل الأصول العامة بقيمة 31.5 مليار دولار أميركي على مدى الأعوام الثمانية اللاحقة، بالفائدة بوجهٍ خاص على الشركات المنتسبة إلى جمعية الصناعة والأعمال التركية وشركائها التجاريين الأوروبيين الذين بات بإمكانهم التنافس مباشرةً مع الشركات التابعة للقوات المسلحة التركية. على سبيل المثال، تمكّن الكونسورتيوم التركي-الهولندي بين شركتِي "كوتش" و"شيل" (Shell) من الفوز على هيئة التضامن العسكري في المناقصة لشراء شركة "توبراش" (Tüpraş) الرائدة في قطاع المصافي النفطية في تركيا. وبالمثل، أصبحت الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم المنتسبة إلى جمعية الصناعيين ورجال الأعمال المستقلين (التي استُبعدت من العقود العامة بموجب المذكرة الصادرة عن القوات المسلحة التركية في العام 1997) أو إلى اتحاد رجال الأعمال والصناعيين الأتراك (TUSKON) الذي كان قد أُنشئ حديثًا (وكان أعضاؤه ينتمون إلى حركة غولن الإسلامية التي كانت آنذاك حليفةً رئيسةً للحكومة) جهات مستفيدة أساسية من عقود الإنشاءات العامة التي منحتها الوزارات الحكومية والبلديات الخاضعة لسيطرة حزب العدالة والتنمية في الفترة الممتدّة من 2004 إلى 2011.
التأقلم العسكري مع التحرّر الاقتصادي ونهج عدم التدخل الذي اعتمده حزب العدالة والتنمية في البداية
ظلّت القوات المسلحة التركية جهة فاعلة مهمّة ومستقلّة ذاتيًّا في السوق على الرغم من فقدانها الوصاية التي فرضتها بنفسها على رأس المال والسياسة في تركيا بعد العام 2002، ومن التطوّر الكبير في علاقاتها مع القطاع الخاص. وقد استفادت القوات المسلحة من التحرّر الاقتصادي في تركيا ومن نهج عدم التدخل الذي اتّبعه حزب العدالة والتنمية في البداية تجاه الأعمال التجارية التابعة للقوات المسلحة من أجل الحفاظ على مزاياها النسبية وتطبيع دورها بوصفها جهة فاعلة في السوق.
وقد تجلّى ذلك في المسار الذي سلكته هيئة التضامن العسكري. فقبل العام 2002، استخدمت القوات المسلحة هذه الهيئة – التي هي رسميًّا عبارة عن تكتّل خاص كان يعمل حصرًا في الاقتصاد المدني – من أجل تعزيز المصالح الاقتصادية المشتركة مع نخب الأعمال العلمانية. وبعد العام 2002، استمرّت هذه الهيئة في الاستفادة من وضعها القانوني الخاص والعلاقة العضوية التي نشأت بينها وبين القوات المسلحة منذ ذلك الحين، مستغلَّةً إغفال الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي لهذَين الجانبَين ومروِّجَةً في الوقت نفسه لصورتها كجهة فاعلة في القطاع الخاص من خلال إدماج شركاتها الفرعية في جمعية الصناعة والأعمال التركية والاقتراض من السوق المالية العالمية. وقد ازدادت أصول هيئة التضامن العسكري بشكل كبير، من 10.7 مليارات دولار في العام 2005 إلى 14.6 مليار دولار في العام 2022.
ولكن المثال الذي تقدّمه هيئة التضامن العسكري يكشف أيضًا كيف استمرّت القوات المسلحة في التوفيق بين المصالح العامة والخاصة وفي الترويج للخطابات الحمائية فيما استفادت من العولمة حتى في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية. على سبيل المثال، وعلى الرغم من أن القوات المسلحة عارضت خصخصة الشركات الحكومية "الاستراتيجية" مثل شركة الاتصالات التركية (Türk Telekom) في العام 2001، متذرّعةً بالأمن القومي، قدّمت هيئة التضامن العسكري لاحقًا عرضًا للاستحواذ على اثنتَين من هذه الشركات. وفي العام 2007، فازت هيئة التضامن العسكري بالسيطرة على شركة "إردمير" (Erdemir) المُنتجة للصلب، وهي من كبريات/كبرى الشركات التركية المملوكة للدولة وأكثرها ربحية، بعد الحملة التي شنّتها الهيئة ضد المنافسين الأجانب وحظيت بتغطية إعلامية واسعة. وسلّط بيع مصرف "أوياك بنك" (Oyakbank) التابع لهيئة التضامن العسكري إلى مصرف "آي إن جي" (ING) الهولندي في العام نفسه الضوءَ على اهتمام القوات المسلحة بالربح التجاري والتحرّر الاقتصادي في تركيا.
السيطرة المدنية على رأس المال العسكري وإعادة تصوّر الزبائنية التي يمارسها حزب العدالة والتنمية
شكّلت الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008 والانقلاب العسكري الفاشل في العام 2016 نهاية نهج عدم التدخل الذي اتّبعه حزب العدالة والتنمية حيال رأس المال العسكري التركي. وعلى وجه الخصوص، فإن محاولة الانقلاب منحت أردوغان، الذي كان قد أصبح رئيسًا للبلاد في العام 2014، الفرصة لهندسة انتقال تركيا من نظام سياسي برلماني إلى نظام رئاسي. وعبر إقدامه على ذلك، استخدم على نحو استنسابي الأدوات القانونية المتاحة له من أجل وضع اليد على مؤسسات الدولة المكلّفة بالحوكمة الاقتصادية والتخلّص من المعارضين السياسيين المتصوَّرين، ولا سيما في صفوف روّاد الأعمال المستقلين والقوات المسلحة التركية. نتيجةً لذلك، وبدلًا من تعزيز المساءلة المالية وترسيخ الدمقرطة، أدّى تثبيت السيطرة المدنية على رأسمال القوات المسلحة والمشتريات الدفاعية والصناعة الدفاعية، إلى توسيع نطاق الزبائنية التي يمارسها حزب العدالة والتنمية وإعادة تشكيلها على السواء.
فقد مُنِعت بعض نخب الأعمال العلمانية الكبرى، جزئيًّا على الأقل، من الوصول إلى عقود الشراء العام. ومن الأمثلة البارزة على ذلك شركة "كوتش" القابضة التي تُعَدّ من أكبر ثلاثة تكتّلات في القطاع الخاص في البلاد، وهي مملوكة لأسرة ساعدت في تأسيس جمعية الصناعة والأعمال التركية ودعمت الحكم العسكري في الفترة الممتدة من 1980 إلى 1983. بعد فترة وجيزة من اندلاع الاحتجاجات المناهضة للحكومة في منتزه غيزي في حزيران/يونيو 2013، والتي اعتُبرت عائلة كوتش من الداعمين لها، عمدت الأمانة الفرعية للصناعات الدفاعية، وهي وكالة المشتريات الدفاعية في تركيا، إلى إلغاء عقدَين مع شركتَي "آر إم كي مارين" (RMK Marine) و"أوتوكار" (Otokar) التابعتَين لشركة "كوتش" القابضة، وكان العقد الأول يتعلق ببرنامج "ميلغيم إس" (Milgem-S) البحري والعقد الثاني بدبابات "ألتاي" (Altay) القتالية، بقيمة إجمالية قدرها 6 مليارات دولار أميركي. وداهمت السلطات المالية أيضًا مقرّ الشركة.
في العام نفسه، صودِرت شركة "بي إم سي" (BMC) للصناعات الدفاعية التابعة لشركة "تشوكوروفا" (Çukurova) القابضة المملوكة للقطاع الخاص تحت ستار تحصيل ديون الدولة، واستُخدمت هذه المصادرة بمثابة وسيلة أخرى لإتاحة "نقل الرساميل ضمن الطبقة الرأسمالية"، من رأس المال الكبير المستقل إلى روّاد الأعمال الموالين لحزب العدالة والتنمية. وقد بيعت شركة "بي إم سي" بعد عام إلى إيثيم سانجاك، الذي كان الوحيد الذي تقدّم بعرض. وسانجاك هو رجل أعمال انتقل من العضوية في جمعية الصناعة والأعمال التركية إلى العضوية في جمعية الصناعيين ورجال الأعمال المستقلين، وكان آنذاك عضوًا بارزًا في حزب العدالة والتنمية ومالكًا لوسائل إعلام موالية للحزب، إضافةً إلى كونه صديقًا مقرّبًا من أردوغان. في العام نفسه، استثمر تاليب أوزتورك، الذي تربطه صلة قرابة بعيدة بأردوغان، 100 مليون دولار في شركة "بي إم سي"، بالشراكة مع سانجاك. وفي وقت لاحقٍ من العام 2014، أقدمت لجنة التصنيع الحربي التابعة للقوات المسلحة القطرية على شراء نحو 50 في المئة من أسهم "بي إم سي"، ما عكس التحالف الاستراتيجي الذي تشكّل بين تركيا وقطر في أعقاب الربيع العربي في 2010-2011. وقد بيعت الأسهم المتبقية في نهاية المطاف إلى شركة "توسيالي" القابضة (Tosyalı) التركية في العام 2021 بقيمة 480 مليون دولار، فحقّق سانجاك ربحًا صافيًا يزيد عن 290 مليون دولار.
وعلى نحو مماثل، فإن كبح الاستقلال الذاتي الذي تتمتع به القوات المسلحة التركية في ما يتعلق بالمشتريات والصناعة الدفاعية استُخدم بصورة أساسية لصالح روّاد الأعمال ذوي الصلات السياسية والمتعاقدين من الباطن الصغار والمتوسطي الحجم الذين يشكّلون القاعدة الناخبة التقليدية لحزب العدالة والتنمية، إلى جانب نخب الأعمال التي كانت تتمتع باستقلال ذاتي سابقًا وجرت استمالتها سياسيًّا. كانت هذه الأشكال من رأس المال العسكري حكرًا في السابق على التحالف الاحتكاري لجمعية الصناعة والأعمال التركية والقوات المسلحة مع الشركاء الغربيين، ولكنها أصبحت ابتداءً من العام 2013 موارد أساسية في أيدي حكومة حزب العدالة والتنمية وأردوغان. وبعد تغيير النظام، استحوذ أردوغان على السيطرة الكاملة على وكالة المشتريات الدفاعية التركية (التي أصبح اسمها رئاسة الصناعات الدفاعية) إضافةً إلى صندوقها السنوي غير المُدرَج في الميزانية والذي يساوي مليارات الدولارات، وكذلك على مؤسسة القوات المسلحة التركية التي تُعَدّ الجهة المنتجة المحلية الخاصة الأساسية للأسلحة. تتولّى هذه المؤسسة، التي أُنشئت في العام 1987، "الرصد والإشراف بشكل مباشر وغير مباشر" على خمس عشرة شركة في قطاع الدفاع، بما في ذلك شركات فاعلة على الساحة العالمية، مثل شركة "أسيلسان" (Aselsan)، والشركة التركية لصناعات الفضاء، وشركة "روكتسان" (Roketsan).
لقد أدّى انتشار المشتريات الدفاعية المحلية وإعادة توجيهها إلى تعزيز الزبائنية التي يمارسها حزب العدالة والتنمية، ما عوّض جزئيًّا عن الصعوبات المالية التي واجهها قطاع الإنشاءات التركي بعد الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008. وللمفارقة، تزامنت هذه السيطرة المدنية على رأس المال العسكري أيضًا مع زيادة غير مسبوقة في الإنفاق العسكري، الذي ازداد من 9.6 مليارات دولار في العام 2015 إلى 14.7 مليار دولار في العام 2023، ومن المزمع أن يقفز إلى 40 مليار دولار في العام 2024.6 وفي موازاة ذلك، أدّى الدعم الحكومي المتزايد للإنتاج الدفاعي المحلي إلى زيادة مضاعَفة في إجمالي مبيعات الصناعة الدفاعية التركية بين العامَين 2016 و2022.
إن عزم أنقرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في قطاع الدفاع، ولا سيما إثر تدهور العلاقات بين تركيا وكلٍّ من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بعد الانقلاب الفاشل في العام 2016، لم يسهم في زيادة الإنفاق العسكري فحسب، بل سهّل أيضًا إعادة تخصيص أموال الدولة إلى رجال الأعمال المقرّبين من حزب العدالة والتنمية، وأدّى إلى تأجيج الخطابات السيادية والمعادية للغرب.
استجابت جمعية الصناعيين ورجال الأعمال المستقلين لهذه العوامل من خلال تشكيل أول مجلس لها معني بقطاع الدفاع في العام 2017 وتوسيع حضورها في تكتّلات الصناعات الدفاعية، والتعاون مع شركات رائدة في هذا المجال مملوكة لمؤسسة القوات المسلحة التركية. وفي العام التالي، فازت شركة "بي إم سي" الخاصة ذات الصلات السياسية والمتخصّصة في تصنيع المركبات بعقد لإنتاج دبابات من طراز "ألتاي" كانت خسرته شركة "كوتش" القابضة في العام 2013، بسعر أعلى بكثير بلغ 11 مليار دولار. كذلك، أصدر أردوغان في العام 2018 مرسومًا منح بموجبه شركة "بي إم سي" حقوق تشغيل مصنع الدبابات والصفائح العسكرية الوطني التركي (الذي كان تابعًا لمديرية مصانع الصيانة الرئيسة الأولى) لمدة 25 عامًا بسعر أدنى من القيمة السوقية.
شهد قطاع بناء السفن العسكرية تحوّلًا مماثلًا. فلفترةٍ طويلة هيمنت على هذا القطاع أحواض بناء السفن التابعة للقوات البحرية التركية، إلى جانب شركات ألمانية وبعض الشركات التابعة لجمعية الصناعة والأعمال التركية، بيد أن روّاد الأعمال ذوي الصلات السياسية وكبار مالكي السفن الخاصة استفادوا من مساعي حزب العدالة والتنمية الحثيثة لتطوير مجال بناء السفن العسكرية محليًا والقوة البحرية التركية من أجل الفوز بعقود الدفاع العامة. على غرار أردوغان، يتحدّر معظم الوافدين الجدد في مجال بناء السفن العسكرية من منطقة البحر الأسود، مثل أسرة كالكافان العاملة في مجال الشحن، التي تملك حوض "سيديف" (Sedef) لبناء السفن؛ وأسرة كولوغلو، وهي من بين أكبر خمسة مستفيدين من عقود المشتريات العامة المدنية في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، فضلًا عن أنها تمتلك حوض "سفينة" (Sefine) لبناء السفن؛ وأبناء عثمان بيبي (وهو وزير الغابات والمياه السابق المنتسب إلى حزب العدالة والتنمية)، الذين يمتلكون حوض "هات-سان" (Hat-San) لبناء السفن. وفي العام 2013، فاز حوض "سيديف" لبناء السفن وشريكه الإسباني بعقد بناء أول سفينة إنزال برمائية تابعة للقوات البحرية التركية، ما أثار - إلى جانب تسجيل مُسرَّب لمحادثة بين أردوغان ومالك حوض "سيديف"، متين كالكافان، حول إلغاء العقد البحري لشركة "كوتش" القابضة - شكوكًا بحدوث تلاعبٍ في المناقصات.
تُظهر قدرة شركة "بايكار" (Baykar) المملوكة للقطاع الخاص، التي صنّفها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام في المرتبة السادسة والسبعين ضمن قائمة الشركات المُنتجة للأسلحة حول العالم، على اجتياز القيود المشدّدة المفروضة على الانخراط في قطاع الطيران، مدى اتّساع شبكات المحسوبية الخاصة بحزب العدالة والتنمية. هذه الشركة، التي يتشارك ملكيتها وإدارتها سلجوق بيرقدار، صهر أردوغان ووريثه السياسي المحتمل، تُنتج الطائرات المسيّرة المسلحة الشهيرة والمصنّعة محليًا من طراز "بيرقدار تي بي 2" (Bayraktar TB2)، التي أدّت دورًا مهمًا في تعزيز هيبة حزب العدالة والتنمية ونفوذه في تركيا والخارج على السواء.
رأس المال العسكري والتحوّل (من جديد) نحو السلطوية
بدلاً من تحييد رأس المال العلماني الكبير عن المشتريات والصناعات الدفاعية، أفضت إعادة تشكيل شبكات المحسوبية إلى مصالح تكاملية وتداخل أكبر. ربما تضاءلت حصة أعضاء جمعية الصناعة والأعمال التركية في السوق المحلية والعروض العامة في قطاع الدفاع، إلّا أنهم حقّقوا الازدهار بشكلٍ عام، ويُعزى ذلك جزئيًا إلى الارتفاع الهائل في صادرات الأسلحة التركية، التي وصلت إلى 4.4 مليارات دولار في العام 2022 نتيجة السياسة الخارجية النشطة التي اتّبعها حزب العدالة والتنمية تجاه الدول غير الغربية، واتفاقات التعاون الدفاعي الجديدة التي أبرمها معها.
في الوقت نفسه، أسفر توسيع شبكات المحسوبية الخاصة بحزب العدالة والتنمية عن تنامي التعدّيات على رأس المال العسكري. وأدّى تعيين أحد الموالين لأردوغان في منصب رئيس هيئة التضامن العسكري في أيار/مايو 2016، إلى وضع الموارد المالية الهائلة والسيولة الاستثنائية لهذا التكتّل العسكري الخاص وصندوق التقاعد العسكري تحت سيطرة الرئيس، كما ظهر من خلال استحواذ هذه الهيئة على الامتياز التركي لشركة توتال أويل (Total Oil) بعد أربع سنوات. تجدر الإشارة إلى أن الشركة التي تولّت عملية بيع الامتياز كانت مملوكة لأحد أعضاء جمعية الصناعة والأعمال، يلدريم ديميرورين، الذي يُعتبر من بين العملاء المهمّين للرئيس، ويمتلك وسائل إعلام كبرى مؤيّدة لحزب العدالة والتنمية، ناهيك عن أنه لاعب بارز في قطاعات الطاقة والتعدين والعقارات. وساهم استعداد هيئة التضامن العسكري لدفع 450 مليون دولار أميركي، أي أعلى من القيمة الفعلية، في تراجع توزيعات أرباحها بشكلٍ كبير ذلك العام، ما أدّى إلى تراكم الديون وتنامي الانقسامات بين ضباط القوات المسلحة التركية. علاوةً على ذلك، لجأ نواب حزب العدالة والتنمية وحلفاؤهم في حزب الحركة القومية إلى التصدّي لدعوات المعارَضة المُطالِبة بإجراء تحقيق برلماني.
كان إخضاع القوات المسلحة التركية لسيطرة قادة مدنيين منتخبين وتهميشها اقتصاديًا من الشروط الضرورية في إطار عملية الدمقرطة، لكنهما لم يكونا كافيَين. بل على العكس، في ظل غياب المساءلة الحكومية، أدّت الجهود الرامية إلى توطين الصناعات الدفاعية التركية والنفوذ السياسي المُمارَس في استخدام رأس المال العسكري وتوزيعه بطريقة استنسابية، إلى توسيع الشبكات الزبائنية الموالية للرئيس وفرض عقوبات تجارية على المنافسين في القطاع الخاص. وأسفر تعزيز العلاقات الشخصية القائمة على الاعتماد المتبادَل بين رئاسة أردوغان المركزية القوية ونخب رجال الأعمال من كلٍّ من جمعية الصناعيين ورجال الأعمال المستقلين وجمعية الصناعة والأعمال، عن محو الحدود التقليدية وإعادة تشكيلها بين القطاعَين العام والخاص، وروّاد الأعمال العلمانيين ونظرائهم المتديّنين، ورأس المال القائم على الزبائنية وذاك الخاضع إلى سيطرة نخب متنفّذة، وبين جمعيات الأعمال المؤيّدة للاتحاد الأوروبي وتلك المناهضة للغرب. نتيجةً لذلك، ترافق إضعاف النفوذ السياسي والاقتصادي للقوات المسلحة التركية مع تراجع استقلالية الشركات الكبرى ككل، ما ساهم في التحوّل السلطوي في البلاد.
نبذة عن المؤلّفة
غابرييلا أنوك كورتي-رِيال زميلة أبحاث في مركز نوريا للأبحاث.
العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال في الرأسمالية القسرية في مصر
تُعدّ المؤسسة العسكرية المصرية الركيزة الأساسية للنظام السياسي في البلاد منذ أن أطاحت القوات المسلّحة بالنظام الملكي وأنشأت الجمهورية الحديثة في 1952-1953. ولكن نادرًا ما حكم الجيش باسمه أو فرض هيمنته على طبقة الأعمال المُمسِكة برأس المال. بدلًا من ذلك، حكمت الإدارات الرئاسية المتعاقبة، وإن كان على رأسها ضباط من القوات المسلحة، اقتصادَ البلاد على مدى واحد وسبعين عامًا من السنوات الاثنتين والسبعين الماضية. وقد هندست هذه الإدارات إلى حدٍّ كبير سياساتٍ تعطي الأولوية إلى حاجاتها السياسية والاقتصادية على حساب حاجات القطاع الخاص. ولكن في العقد المنصرم، لم تتبع العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال منحنى تطوريًّا مطّردًا مماثلًا. تاريخيًّا، كانت العلاقة في الغالب ذات منفعة متبادلة، وطفيلية مرارًا، حتى في ظل تعدّي القوات المسلّحة على ميدان التجارة المدنية وإنشائها جيبها الاقتصادي الخاص. ولكن منذ الانقلاب العسكري في العام 2013 وتسلُّم عبد الفتاح السيسي سدّة الرئاسة، دفعت عملية إعادة التشكيل العميقة للسلطة السياسية وأنماط تكوين رأس المال – إلى جانب التوسع الكبير للاقتصاد العسكري – بالعلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال إلى الواجهة بطرق إشكاليّة في الكثير من الأحيان.
تشكّل المؤسسة العسكرية رأس الحربة لاستراتيجية السيسي الاستثمارية الطموحة التي تقودها الدولة، ونتيجةً لذلك فهي تنخرط في الإدارة الاستراتيجية للاقتصاد. وقد أدّت الأزمة التي ضربت المالية العامة والاقتصاد في مصر، بسبب جائحة فيروس كورونا والسنوات الأولى من الحرب في أوكرانيا، إلى تسريع وتيرة هذا التحوّل. فجنرالات القوات المسلحة الذين يرأسون هيئات عسكرية نشطة اقتصاديًّا باتوا الآن أعضاء في لجان وضع السياسات في عددٍ من القطاعات المهمة (مثل تكنولوجيات الثورة الصناعية الرابعة، والتنمية الصناعية)؛ ويوجّهون المشتريات الحكومية لسلع محدّدة؛ ويديرون برامج الرعاية الاجتماعية؛ ويؤثّرون في كيفية تعامل الحكومة مع الديون الخارجية، والاستثمارات الأجنبية والمحلية، والمدّخرات. وينضمّ قادة القوات المسلحة روتينيًّا إلى الرئيس في الاجتماعات المتعلقة بالاقتصاد والاستثمارات الاستراتيجية للدولة. لقد أدّى هذا الانخراط المتزايد إلى نشوء علاقة بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال ينتج عنها منح سيلٍ من عقود المشتريات العامة التي تديرها المؤسسة العسكرية إلى جهات محظيّة في القطاع الخاص، ولكنه ربطَ أيضًا هذه الجهات على نحو أوثق بالنظام الحاكم، ما زاد من تقييد استقلالية القطاع الخاص ككل وثنيه عن الاستثمار في الاقتصاد.
لكن الجهود التي تبذلها المؤسسة العسكرية للاحتفاظ بالتفوّق السياسي بصورة دائمة، لا ممارساتها الاقتصادية الافتراسية حصرًا، هي التي تحدّد علاقاتها مع القطاع الخاص. لذا وعلى الرغم من أن العلاقة بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال عميقة التجذّر ومجزية في الغالب لكلا الطرَفين، فهي لم تؤدِّ قطعًا إلى ظهور تحالف طبقي صريح، أي ائتلاف اجتماعي واضح المعالم ذي مصالح مشتركة. قد يبدو أن في الأمر مفارقة. فالجهود التي تبذلها إدارة السيسي لإعادة بناء اقتصاد تقوده الدولة، وإن لم يكن بالضرورة مملوكًا منها، تولّد شكلًا هجينًا من مركزية الدولة والنيوليبرالية يمكن وصفه بـ"الرأسمالية القسرية". ويكمن تفسير ذلك في ما تتمتّع به المؤسسة العسكرية من استقلالية عن أي تحالف اجتماعي مُحدَّد المعالم وعن مؤسسات الدولة الأخرى، بل واستقلاليتها حتى عن الرئاسة، إثر التعديل البالغ الأهمية الذي أُدخِل على نصّ الدستور المعدّل للعام 2019. قد لا يعارض الرأسماليون المصريون المدنيون من جهتهم الرأسمالية القسرية، إلا أنهم لا يضطلعون بأيّ دور في تصميمها ولا في توجيهها.
كشفت الأزمة المالية والاقتصادية الحادّة للعام 2022 أن الرأسمالية القسرية المصرية في خطر حتى فيما لا تزال تتبلور معالمها. ردًّا على ذلك، قد تعمَد القوات المسلحة، التي توشك على تولّي مكانة مهيمنة في الاقتصاد القومي، إلى الاستحواذ على مزيدٍ من تدفّقات الإيرادات والفرص الاقتصادية المتناقصة، مع ما ينطوي عليه ذلك من خطر إضعاف القطاع الخاص واستبعاده بشكلٍ متزايد. أو أنها قد تدرك، في نهاية المطاف، فوائد الاصطفاف بشكل لا لبس فيه مع كبار رجال الأعمال، ما يضع حدًّا للتهميش المستمر الذي يتعرّضون له منذ عقود ويحوّلهم من زبائن محسوبين إلى شريحة أوليغارشية قائمة في ذاتها. ومع ذلك، لا يحمل أيٌّ من النتيجتَين بوادر ظهور ائتلاف اجتماعي سياسي من أجل الدمقرطة.
تطوّر العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال ضمن الرأسمالية المتصدّعة في مصر
تشهد العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال في مصر تغيّرًا تحوّليًّا منذ العام 2013. فقد أصبحت العلاقة بالنسبة إلى الطرفَين أكثر عمقًا وأهمّية، إنما بطرق تُلحق الضرر بالقطاع الخاص. خلال العقود الأربعة السابقة، تطوّر الاقتصاد العسكري والقطاع الخاص في مسارات منفصلة إلى حدٍّ كبير. وأفضل تفسير لذلك هو ظهور ما أسماه أستاذ الاقتصاد السياسي عمرو عدلي "الرأسمالية المتصدّعة" بعد العام 1974، وهي عبارة عن نظام ريعي يتّصف بضعف تكامل الأسواق فيه، وتسيطر عليه "جهات فاعلة بيروقراطية تابعة للدولة استخدمت بشكل مباشر رأس المال المالي والمادّي... وسلطة الدولة في المضمار الاقتصادي، وإن لم يحصل ذلك دائمًا بطريقة منسجمة أو متماسكة أو منسّقة"، ما أدّى بدوره إلى الإبقاء على "المنظمات والمؤسسات المركزية والهرمية والسلطوية التي رفعت تكلفة وصول أكثرية الجهات الفاعلة في الأسواق إلى التمويل والأراضي". فمصر هي اقتصاد مجزّأ "تكافح فيه الشركات الصغيرة والمتوسطة من أجل البقاء، وتفتقد فيه إلى أي تطلّع للتوسّع عن طريق بيع منتجاتها وخدماتها لشركات أكبر"، على حدّ تعبير أستاذ العلوم السياسية روبرت سبرينغبورغ.
ربما لم تكن العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال في مصر متكافئة على الإطلاق في أعقاب التأميم الشامل في العام 1961، والذي أدّى، إضافةً إلى ما سبقه من نزع ملكية كبار مالكي الأراضي في الخمسينيات، إلى القضاء على ما تمتّعت به الطبقة الرأسمالية من قوّة سياسية. ولكن ظهرت علاقات أكثر تكافؤًا بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال بعد العام 1974، حين أطلق الرئيس أنور السادات آنذاك سياسة الانفتاح الاقتصادي، أي التحرير المحدود للتجارة، وتراجعَ جزئيًّا عن إصلاح الأراضي وما يُسمّى بالمراسيم الاشتراكية للعام 1961. في موازاة ذلك، أنشأ السادات بعض أهم الهيئات الاقتصادية التابعة للجيش، وأعاد إحياء الصناعة الدفاعية بعدما ظلّت هامدة إلى حدٍّ كبير منذ العام 1958، وأرسى الأسس القانونية لقيام القوات المسلحة لاحقًا بالوصاية الرسمية على الأراضي والبنية التحتية التابعة للدولة، وحقوق الانتفاع منها. وقد اتّسع الحيّز الاقتصادي للقطاع الخاص إلى حدٍّ كبير بعد الخصخصة الجزئية للمؤسسات المملوكة للدولة في العام 1991. ولكن اتّسع أيضًا، في الموازاة، النشاط الاقتصادي العسكري، وساعده في ذلك جزئيًّا تسجيل بعض الشركات العسكرية على أنها مؤسسات تابعة للقطاع العام. وأدّى تمدّد "جمهورية الضباط"، أي الآلاف من كبار متقاعدي القوات المسلحة الذين حصلوا على وظائف مضمونة في الوزارات المركزية والهيئات الاقتصادية العامة، وفي الإدارات المحلية والشركات المملوكة للدولة التي أُضفي عليها حديثًا الطابع التجاري، إلى زيادة كبيرة أيضًا في التفاعلات غير الرسمية بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال. وفد تجلّى ذلك بصورة خاصة في الطلبات التي تقدّم بها القطاع الخاص لاستخدام أراضي الدولة لأغراض سكنية وتجارية، وكان ترخيص هذا الاستخدام منوطًا بوزارة الدفاع بموجب سلسلة من المراسيم الرئاسية التي صدرت بين العامَين 1981 و2001.
بدا أن الانتقال الاقتصادي الذي شهدته مصر بعد العام 1991 مهّد الطريق نحو رأسمالية قائمة على وساطة الدولة، بحيث أنتج تفكيك الاقتصاد الاشتراكي علاقة تكافلية جديدة بين المسؤولين في الدولة والرأسماليين الزبائنيين.7 ففي إطار نأي إدارة السيسي عن حقبة رجال الأعمال المحسوبين على الرئيس الأسبق حسني مبارك، كان بإمكانها أن تسمح لأوليغارشيين أكثر استقلاليةً بالتأثير في صياغة السياسة الاقتصادية والاستراتيجية الاستثمارية. ولكن بدلًا من ذلك، فإن الجهود التي بذلها السيسي لإخضاع رأس المال الخاص لاستراتيجيته الاستثمارية التي تقودها الدولة كثّفت عملية استبعاد جميع الجهات الاقتصادية الفاعلة في ما خلا تلك الأكثر حظوةً، من الوصول إلى رأس المال والعملة الأجنبية، ما تسبّب بتجذّر الرأسمالية المتصدّعة. ولكن إرث المرحلة التكوينية من العام 1975 إلى العام 2010 لا يزال يطبع الاقتصاد السياسي المصري، وبالتالي العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال، في ثلاثة جوانب أساسية.
أولًا، تعلّم كلٌّ من القطاع الخاص والمؤسسة العسكرية – والرؤساء الذين خرجوا من صفوف القوات المسلّحة – التطلّع حصرًا إلى الدولة لتوليد رأس المال (بما في ذلك من خلال الاقتراض) وإعادة توزيعه (بما في ذلك من خلال عقود المشتريات العامة للسلع والخدمات). ومنذ العام 1991 على وجه الخصوص، اتّبع كلٌّ من الجيش والقطاع الخاص بصورة عامة نهجًا استخراجيًّا، من خلال الاستفادة من الدور المهيمن الذي تضطلع به الدولة في تحديد السوق للاستحواذ على العقود وغيرها من مصادر الإيرادات، ومن ثم ترسيخ اقتصاد سياسي يعتمد بشكل كاسح على الريع. ولكن منذ العام 2013، مالت كفّة ميزان الاستخراج بشكل حاسم بعيدًا عن القطاع الخاص لصالح المؤسسة العسكرية، فاضطُرّ القطاع الخاص إلى التعويل بصورة متزايدة على المشاريع ذات الرساميل الكثيفة التي تديرها المؤسسة العسكرية من أجل الحصول على حصّته. يساعد النهج الاستخراجي في تفسير إقبال الجيش على إدارة مشاريع ضخمة ذات رساميل كثيفة، ما أدّى إلى زيادة بنسبة 400 في المئة في الديون السيادية المصرية منذ العام 2014، والتي بلغت 95.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في آذار/مارس 2023.
ثانيًا، ونتيجةً لما تقدّم، فإن الإصلاحات والمقاربات الاقتصادية من النوع الذي يفضّله عمومًا شركاء مصر الغربيون، مثل الشراكات بين القطاعَين العام والخاص، يُنظَر إليها عادةً بأنها وسائل إضافية للاستحواذ على الريع، لا كمساراتٍ لتغيير نموذج الاقتصاد السياسي. فالتواطؤ بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال، لا المنافسة أو الصراع، هو القاعدة أكثر منه الاستثناء، حتى قبل استيلاء الجيش على السلطة في العام 2013. ويكتسي هذا الإرث من التكافل أهمية خاصّة في ضوء وثيقة سياسة ملكية الدولة التي أصدرتها الحكومة في العام 2022، والتي تشدّد على تعزيز الشراكات بين القطاعَين العام والخاص باعتبارها، ظاهريًّا، وسيلة للإصلاح الهيكلي، ولكنها في الواقع وسيلة للاستحواذ على رأس المال الخاص لإعادة رسملة الشركات والأصول المملوكة للدولة وتمويل المشاريع. ولكن التواطؤ حدث في ظروف كان لها تأثير سلبيّ على القطاع الخاص. والدليل على ذلك انكماش أنشطة القطاع الخاص غير المنتج للنفط طوال ستة وثمانين شهرًا من أصل مئة شهر بين كانون الثاني/يناير 2016 ونيسان/أبريل 2024؛ وفي موازاة ذلك، تراجعت حصّة القطاع الخاص من الاقتراض من 42 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 27 في المئة بين 2008 و2020.
ثالثًا، كشفَ التباس العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال سطحيّةَ الخط الفاصل بين ما يُسمّى بالقطاعَين العام والخاص، بحسب ما أوردته باحثة الاقتصاد السياسي سارة سميرتشياك. وهذا أيضًا هو من التركة التي خلّفها نقل شركات القطاع الخاصّ (من دون مالكيها من العائلات، المحرومين من حقوقهم) بالجملة إلى الملكية العامة في العام 1961. لذلك لم يكن السؤال الأساسي كلما جرى الشروع في سياسات اقتصادية جديدة في العقود اللاحقة، عن استثناء هذا القطاع أو ذاك من الاستفادة، بل عن القطاع الذي هو في أفضل وضع لتحقيق أكبر قدر من الفوائد في أي وقت من الأوقات. ومنذ العام 2013، احتلّ الجيش الموقع الأفضل بلا منازع في هذا الصدد، وباتت العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال ذات أهمية أساسية بعدما كانت أهميتها ثانوية في الاقتصاد السياسي المصري. وأصبحت حاجات القطاع الخاص مُلحقة بحاجات النظام الحاكم، ما جعل الفرص التجارية المتاحة لهذا القطاع مرهونةً أكثر من أي وقت مضى بقبول القيود المفروضة على وصوله إلى رأس المال، وفاقم عجزه السياسي.
إعادة تشكيل الزبائنية
تمثّلت إحدى أبرز نتائج التغيّر التحوّلي في العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال الخاص خلال عهد السيسي في إعادة ترتيب الروابط السياسية، التي تتمكّن الأعمال الخاصة من خلالها من الوصول إلى ما يسمّيه الخبراء الاقتصاديون إسحاق ديوان وفيليب كيفر ومارك شيفباور بـ"آليات الامتياز"، وهي: الحماية التجارية، والطاقة المدعومة، والوصول إلى أراضي الدولة، وإنفاذ تنظيمات مؤاتية، والحصول بشكل أفضل على التمويل، والمزايا الضريبية، والوصول التفضيلي إلى العقود الحكومية، ووضع متطلّبات أسهل للحصول على التراخيص. وبعدما تمحورت العلاقات السياسية حول المستفيدين من التحرير المحدود للتجارة الذي أطلقه السادات في العام 1974 (ما يُسمّى بِـ"برجوازية الانفتاح") ثم حول أرباب الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك وأزلامه من رجال الأعمال المتحالفين معه في العقد الأخير من حكم مبارك، باتت تتمحور الآن حول الجيش بشكل واضح لا لبس فيه. إذًا على الرغم من أن مجلس الوزراء لا يزال رسميًّا الواجهة الرئيسة بين الدولة المصرية والقطاع الخاص المحلي، فإن المؤسسة العسكرية هي، في الممارسة العملية، الوسيط الأساسي لعلاقة السيسي مع القطاع الخاص. وهذا يعني أن القطاع الخاص هو الآن رهنٌ بالسيسي وأعوانه العسكريين أكثر ممّا كان عليه في عهد مبارك الذي دام ثلاثين عامًا، فاستقلاليته في السوق – وأي طموحات سياسية ناشئة لديه – مقيّدة اليوم أكثر من أي وقت مضى منذ إطلاق الخصخصة في العام 1991.
في عهد مبارك، انبثقت الزبائنية من الرئاسة من خلال كبار ممثّلي ونوّاب الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك، والكثير منهم رجال أعمال محسوبين على النظام. ومنذ مطلع العقد الحادي والعشرين، تركّزت الزبائنية على رجال أعمال محسوبين ومناصرين نيوليبراليين تجمّعوا حول جمال، نجل مبارك، الذي كان رئيسًا للجنة السياسات النافذة في الحزب. كانت المحسوبيات العسكرية المباشرة محدودة. وكانت الشركات المدنية ذات الارتباطات السياسية تستفيد كلما تقاطعت مصالحها وأنشطتها مع مصالح المؤسسة العسكرية وأنشطتها، ولكنها لم تتأثّر في الغالب بالأنشطة التجارية للجيش، التي ظلّت محصورة نسبيًّا في جيب اقتصادي شبه منعزل إلى حدٍّ كبير حتى العام 2013. وخشيت المؤسسة العسكرية، من جهتها، من أن يؤدّي تجدّد حملة الخصخصة في المرحلة الممتدّة من 2004 إلى 2009 إلى تقويض النظام الاجتماعي والاستقرار السياسي، ونظرَت إلى جمال مبارك وشركائه في قطاع الأعمال على أنهم منافسون سياسيون محتملون لا حلفاء. نتيجةً لذلك، وفيما منعت المؤسسة العسكرية الإنعاشَ الاقتصادي وإعادة التأهيل السياسي لرجال الأعمال المحسوبين على النظام بعد إطاحة مبارك في العام 2011، فإنها أبقت أيضًا على مسافة بينها وبين كبار رجال الأعمال المستقلين الذين يمتلكون القدرة على الظهور في موقع الأوليغارشيين الاقتصاديين – وبالتالي في موقع الشركاء السياسيين، إن لم يكونوا أندادًا على قدم مساواة.
شكّل انقلاب العام 2013 تحوّلًا جذريًّا، إذ وضع المؤسسة العسكرية على مسار اقتصادي توسّعي أعاد بطبيعة الحال تشكيل شبكات المحسوبية في الاقتصاد وبيروقراطية الدولة وتوجيهها حول الجيش. والحال هو أن المؤسسة العسكرية أصبحت، إذا صحّ التعبير، حاضرة في كل مكان إلى درجة لم يُشهد لها مثيل منذ ظهور ما أسماه باحث الاجتماع السياسي أنور عبد الملك "المجتمع العسكري" في مصر. وقدّمت الحكومة الانتقالية التي عيّنتها القوات المسلحة في العام 2013، والتي لم تعمّر طويلًا، مؤشّرًا على التوجّه الجديد من خلال منح الجيش على الفور عقود أشغال عامة ضخمة بقيمة تزيد عن 7 مليارات جنيه مصري (مليار دولار أميركي آنذاك).8 وهذه كانت محاولة لتحفيز الانتعاش الاقتصادي في أعقاب الأزمة الاقتصادية والمالية الحادّة التي شهدتها الفترة الانتقالية بين العامَين 2011 و2013 وللإيحاء للجمهورَين المحلي والأجنبي بأن النظام الجديد "منفتحٌ على الأعمال".
علاوةً على ذلك، مُنحت جميع هذه العقود الأوّلية إلى الجيش من دون مناقصات ولا منافسة. ثم حصلت المؤسسة العسكرية على سلطة تقديرية واستنسابية كاملة في اختيار متعاقدين من الباطن من القطاع الخاص لتنفيذ المشاريع الكبرى التي كانت تديرها نيابةً عن الحكومة. إلى جانب السيطرة على ترخيص استخدام أراضي الدولة والسلطات التقديرية الأخرى (مثل التلاعب غير الرسمي بالحواجز غير الجمركية أمام التجارة والتخليص الجمركي)، شكّلت القدرة على منح أو حجب العقود مفتاحًا أساسيًّا لبناء الزبائنية العسكرية. ويتّضح نطاق ذلك وحجمه في حقيقة أن الهيئات العسكرية تولّت إدارة نحو ربع مشاريع البنى التحتية والمشاريع السكنية المموّلة من الحكومة خلال الفترة الممتدّة من 2013 إلى 2018، وأُبقي على هذه الحصة، إن لم تكن قد ازدادت منذ ذلك الوقت.
لكن استخدام المؤسسة العسكرية لسلطاتها التقديرية كشف أيضًا عن أنماط متغيّرة في العلاقات بينها وبين قطاع الأعمال. فعلى مدى سنوات عدّة بعد العام 2013، فضّلت المؤسسة العسكرية بشكل واضح الشركات الصغيرة والمتوسطة عند منح عقود من الباطن لتنفيذ الأشغال العامة. وبصورة عامة، سعى الجيش على ما يبدو إلى الحصول على دعم الطبقة الوسطى لإدارة السيسي. ولكنّ تدقيقًا عن كثب يكشف أن الكثير من المتعاقدين من الباطن الذين وقع الاختيار عليهم كانوا قد عملوا سابقًا لحساب الجيش، وأن بعض الشركات كانت عبارة عن واجهات أو شركات صورية (تفتقر إلى المهارات والقدرات ذات الصلة) ربما أنشأها ضباط من القوات المسلحة للاستحواذ على عقود يمكن بيعها بعد ذلك وتحقيق الأرباح. كذلك أثّرت المنافسة بين مجموعات المصالح العسكرية في اختيار المتعاقدين من الباطن. في غضون ذلك، أبقت المؤسسة العسكرية في الغالب على مسافة بينها وبين كبار رجال الأعمال، ولم تلجأ إليهم إلا حين احتاجت إلى مزاياهم في رأس المال، والدراية التقنية، والوصول إلى الأسواق الدولية في مشاريع البناء والمشاريع الصناعية الكبرى.
مع ذلك، بدّلت المؤسسة العسكرية مسارها في الأعوام الماضية، إذ فرض الحجم الهائل للمشاريع المدنية التي تديرها تغييرًا في النهج لتحقيق قدرٍ أكبر من الكفاءة. في العام 2019، إن لم يكن قبل ذلك، باشر الجيش روتينيًّا إقامة شراكات مع بعض كبريات الشركات الخاصة المصرية من أجل أن يعهد إليها بالإدارة الشاملة للمشاريع، بما في ذلك عملية المناقصات، فحرّر نفسه بهذه الطريقة ليتمكّن من التنويع عبر التوجّه نحو قطاعات وأنشطة اقتصادية جديدة. واللافت أن هؤلاء الشركاء في قطاع الأعمال الخاص كانوا عادةً عبارة عن شركات قابضة كبرى حافظت على استقلال نسبي داخل مصر من خلال الإبقاء بصورة أساسية على جزء كبير من رؤوس أموالها وأسواقها خارج البلاد. في المقابل، واجهت الشركات الكبرى التي تفتقر إلى مثل هذه الحماية الدولية صعوبات وتأخيرات جمّة في الحصول على موافقة الحكومة على استثماراتها الكبيرة وفي تقديم المناقصات للفوز بالعقود التي يديرها الجيش. ولكن كلا المجموعتَين من الشركات لا تتمتّعان بنفوذ سياسي أو اقتصادي؛ فالمؤسسة العسكرية تستخدمهما ولكنها لا تسمح بتمكينهما.
من التواطؤ إلى الإكراه
يتواءم الكثير ممّا تفعله المؤسسة العسكرية المصرية في الميدان الاقتصادي، وتطمح إليه في الميدان الاجتماعي مع تفضيلات مجتمع الأعمال والطبقة الوسطى العليا وتطلّعاتهما. ويتّضح ذلك من خلال استثمارات الجيش الضخمة في (1) المشاريع العملاقة مثل إنشاء عاصمة جديدة بالكامل، ومدن "ذكيّة" مسوّرة مصنوعة من الزجاج والفولاذ، وشواطئ اصطناعية على نموذج دبي، وقطار فائق السرعة يربط بين هذه المدن؛ و(2) المشاريع الاجتماعية الثقافية مثل المتحف المصري الكبير، وتطوير مساحات من واجهة النيل في القاهرة، وبناء مدارس وجامعات خاصة تروّج للتعليم الدولي. ولكن في حين أن هذا النهج يعوّل في نهاية المطاف على تبنّيه ماليًّا من أصحاب رؤوس الأموال الخاصة، فإن القوات المسلحة لا تمنحهم سلطة سياسية أو تحكّمًا اقتصاديًّا. على النقيض من ذلك، لقد عمدت باطّراد إلى تعزيز استقلالها عن أي ائتلاف اجتماعي واضح المعالم. وفي ما يبدو وكأنه تأكيدٌ على ذلك، حوّلت القوات المسلّحة ممارسة تُعَدّ في الواقع ابتزازًا للشركات الكبيرة والصغيرة إلى ممارسة روتينية تتمثّل في جمع تبرّعات شهرية يُفترَض أنها طوعية لصندوق "تحيا مصر" التنموي الذي هو المشروع المدلّل للرئيس ويرأسه مدراء عسكريون. هذه الممارسة هي بمثابة تأديب لرجال الأعمال كما أنها تشكّل نمطًا من أنماط الضرائب غير الرسمية للتعويض عن عجز الدولة المزمن عن زيادة كفاءة تحصيل الضرائب.
نتيجةً لهذا التهميش، فإن مستوى الاستثمارات الخاصة من إجمالي الناتج المحلي يسجّل في عهد السيسي نسبة أقل ممّا كان عليه خلال الحقبة الاشتراكية في ستينيات القرن العشرين. من الواضح أن رهان السيسي على خضوع القطاع الخاص المصري للرأسمالية القسرية بالشكل الذي فرضه هو، أو على قدرة الجيش على توليد تدفّقات للدخل العام كافية في أسوأ الأحوال للتعويض عن نقص الاستثمارات الخاصة، محفوفٌ بالمخاطر. وهذا يشكّل تحدّيًا هائلًا لنظام الحكم ما بعد 2013، نظرًا إلى أن عليه خدمة ديون طائلة وسدادها، وتوفير السلع والخدمات العامة للسكان الذين تزداد أعدادهم سريعًا وسط تفاقم الفقر، وعليه أيضًا، بحسب البنك الدولي، توليد استثمارات خاصة بقيمة 230 مليار دولار أميركي لسدّ حاجات البنية التحتية وفجوات التمويل بحلول العام 2038.9 على الرغم من أن السيسي ضاعف الجهود منذ العام 2018 لتحفيز الاستثمار الخاص، فإن الأولوية التي يوليها للإبقاء على سيطرة الدولة والحفاظ على ولاء القوات المسلحة دفعت به حتى الآن إلى التركيز على جذب الاستثمارات الخاصة لتسييل أصول الدولة وشركاتها، من دون التخلّي عن الفرص الاقتصادية المهمة. ولذلك، فإن الإعلان عمّا مجموعه57 مليار دولار من التمويل الدولي لمصر (من الإمارات العربية المتحدة وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي) في النصف الأول من العام2024 أرجأ الأزمة، من دون أن يغيّر نمط المضاربة في الرأسمالية القسرية المصرية أو أن يزيل تناقضاتها الضمنية.
من أجل التوصل إلى حلول لمشاكل البلاد المزمنة المتمثّلة في تدنّي الاستثمار والإنتاجية، ونقص الفائض والمدّخرات المحلية، وضعف الصادرات غير الأوّلية، سيضطرّ السيسي إلى وضع حدٍّ لتهميش طبقة الأعمال بوصفها قوة اجتماعية سياسية والدخول في شراكة سياسية جديدة وغير مألوفة معها. فممارسته التعسفية للسلطة جعلت من الصعب إعادة بناء الثقة مع هؤلاء الحلفاء الطبيعيين. وهو يواجه تحدّيًا أصعب مع "الأوليغارشية المشاكسة المؤلَّفة من كبار الضباط الذين يعتبرون... أنفسهم أندادًا ذوي حقوق في تقاسم السيطرة على أصول الدولة"، نقلًا عن المؤرّخ كارل ف. بيتري في وصفه للعلاقات بين سلاطين المماليك وقادتهم العسكريين في حقبة سابقة من تاريخ مصر. ولكن حتى لو ظهر ائتلاف حاكم جديد يضمّ مسؤولي الدولة، والقوات المسلحة، والشرائح العليا من القطاع الخاص، فلن يؤدّي ذلك إلى "إطلاق العنان للسوق أو تحريرها"، ناهيك عن الدمقرطة. بل إن أي تحالف يتشكّل في إطار الرأسمالية القسرية في مصر سينجم عنه على الأرجح "’تغليف‘ الأسواق أو حمايتها من السيطرة الديمقراطية".
لقد ساهم استعداد الحلفاء الخارجيين في الخليج والغرب لتقديم المساعدة المالية لمصر بمقدار 9 مليارات دولار أو أكثر سنويًّا منذ العام 2014 في دعم بقاء إدارة السيسي، ومن ثم شراكة الرئيس مع القوات المسلحة. لكن يتّضح بصورة متزايدة، وحتى بعد الضخ الضخم لرؤوس الأموال الجديدة في العام 2024، أن التحالف مع طبقة الأعمال هو وحده كفيلٌ في المدى الطويل بأن ينقذ نموذج الرأسمالية القسرية الذي هندسه السيسي والقوات المسلحة. ليس واضحًا إذا كان من الممكن إدراج القطاع الخاص في الشراكة بين الرئيس وجيشه من دون أن يؤدّي ذلك إلى تفكّكها. ولكن المؤكّد هو أن كلتا النتيجتَين تَحولان دون اتّخاذ أي خطوة فعلية نحو الدمقرطة الحقيقية.
يزيد صايغ باحث رئيسي في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، لبنان.
1يمكن الاطّلاع هنا على وصف لمختلف المؤسسات العسكرية والاستخباراتية وميزانية كلٍّ منها.
2كان مفهوم "المؤسسة" قائمًا قبل الثورة باعتبارها كيانًا مقرّبًا من الحكومة، لكن غير خاضع لسيطرتها. وبعد ثورة العام 1979، تم توكيل عدد من المؤسسات، وأهمّها مؤسسة المستضعفين، برعاية الفئات المحرومة، وقدامى المحاربين وغيرهم. تشكّل هذه المؤسسات اليوم ما يُسمى القطاع شبه الحكومي وتمتلك حصصًا كبيرة في شركات ضخمة في البلاد.
3يحيط الكثير من الغموض بالدور الذي يؤدّيه الحرس الثوري في الاقتصاد، لكن إحدى الدراسات استعرضت هذه الصورة: تساهم الشركات التابعة للحرس الثوري بنسبة يُتوقَّع أنها تصل إلى 15 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، وهي نسبة آخذة في الارتفاع.
4يشير مصطلح "شبه حكومي" إلى المؤسسات التي لا تخضع لسيطرة الحكومة، إنما لا تنتمي أيضًا إلى القطاع الخاص.
5الجدير بالذكر أن القطاع الخاص بحقّ يضمّ شركات أكبر (وهي ما يُشار إليه هنا)، والكثير من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم. في الواقع، يجري القطاع الخاص معظم التبادلات التجارية والأنشطة الاقتصادية الصغيرة النطاق.
6تختلف البيانات الصادرة عن كلٍّ من وكالة رويترز ومعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام حول حجم النفقات للعام 2023 (16 مليار دولار و14.7 مليار دولار على التوالي)، ويُعزى ذلك على الأرجح إلى استخدام القيمة الثابتة للدولار واختلاف تعريفات النفقات الدفاعية. أما البيانات المذكورة في هذا المقال فهي مأخوذة من بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام لتوفير أكثر المقارنات دقةً مع نفقات العام 2015.
7Lee Jones, “The Political Economy of Myanmar’s Transition,” Journal of Contemporary Asia 44, no. 1 (2014), 145 and 148.
8تم اقتباس هذه المعلومات وغيرها من البيانات غير المذكورة المصدر في المقال من: يزيد صايغ، "أولياء الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري المصري"، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 14 كانون الأول/ديسمبر 2019،
9استخدمت الحكومة المصرية تقديرات البنك الدولي هذه للعام 2018 في مسودّة وثيقة سياسة ملكية الدولة التي أصدرتها في حزيران/يونيو 2022، ص. 16.