المصدر: Getty
مقال

هل فرض الإدارة الذاتية في الإقليم الشرقي في ليبيا أمر واقعي؟

مؤتمر برقة ليس مؤشّراً عن تفكّك ليبيا، بل يكشف أن السجالات الحقيقية تدور حول اللامركزية وليس حول الاستقلال الذاتي.

 وولفرام لاشر
نشرت في ٢١ مارس ٢٠١٢

"شرق ليبيا يعلن الاستقلال": تحمل العناوين التي تصدّرت الأخبار الدولية عن تفككّ وشيك لليبيا تحريفاً للواقع. فعلى الرغم من مطالبة المشاركين في مؤتمر برقة (برقة هو الاسم الذي يُطلَق على شرق ليبيا) في السادس من آذار/مارس بحق التكلّم باسم إقليمهم، إلا أنَّ المبادرة التي تهدف إلى فرض الإدارة الذاتية والانتقال نحو الفدرالية قد أثارت ردود فعل غاضبة جداً في برقة. ولذلك من المستبعد أن ينجح هذا المسعى نظراً إلى غياب الدعم له في هذا الإقليم.

لقد ركّزت وسائل الإعلام الأجنبية في تغطيتها لردود الفعل على المبادرة، على التظاهرات المناهضة للفدرالية في طرابلس والرد الغاضب لرئيس المجلس الوطني الانتقالي، مصطفى عبد الجليل. بيد أن توجيه الأنظار نحو التشنّج بين الحكومة المركزية وبين أنصار الاستقلال الذاتي في الشرق، مضلَّل. فردود الفعل الأهم تجلّت في منطقة برقة نفسِها: فقد بادرت المجالس المحلية في المدن الكبرى - بنغازي ودرنة والبيضاء وطبرق التي شهدت أيضاً تظاهرات حاشدة ضد الفدرالية - على الفور إلى إبداء معارضتها لإعلان مؤتمر برقة، ورفضت الاعتراف بالمجلس الذي اقترح تشكيله. واعتبر الإخوان المسلمون - الذين يملكون قاعدة هامة في المدن الشمالية الشرقية - أن المصالح الشخصية والضيّقة هي التي تقف خلف الدعوة إلى الاستقلال الذاتي. فضلاً عن ذلك، لم تحصل المبادرة على دعم يُذكَر من الكيانات المسلّحة المختلفة التي تسيطر على الشمال الشرقي؛ فقد أعلن "تجمّع سرايا الثوار" الذي يُعتبَر الميليشيا الأقوى في المنطقة، معارضته لها، ونأى "مجلس برقة العسكري" (مجموعة غير رسمية مؤلّفة من وحدات عدّة من الجيش في المنطقة) بنفسه عن المؤتمر معلناً أنه لن يتدخّل في السياسة.

مما لاشك فيه، أنه لأنصار الفدرالية تأثير في برقة أقوى منه في المناطق الأخرى. وقد كان بين الشخصيات البارزة في المؤتمر وجهاء ومثقّفون من القبائل على رأسهم أحمد الزبير السنوسي، سليل الأسرة المالكة التي حكمت ليبيا بين العامَين 1951 و1969، وقد عُيِّن رئيساً لمجلس إقليم برقة. لكن المجلس لايملك فرصة لممارسة حكم فعلي على الإقليم في غياب الدعم من أبنائه.

واقع الأمر أنَّ المحاولة التي قام بها المؤتمر لاستغلال الفراغ الدستوري من أجل تشكيل هيئة حاكمة بصورة أحادية، هي دليل على هشاشة المرحلة الانتقالية الراهنة وضعف المجلس الوطني الانتقالي الذي يتألّف أيضاً من أعضاء عيّنوا أنفسهم بأنفسهم، ويواجه موجة من الانتقادات بسبب تقاعسه في التعامل مع المشاكل الملحّة.

بيد أن ردّ الفعل العنيف على المؤتمر يبدو موجّهاً بالتحديد ضد مفاهيم الاستقلال الذاتي الذي يُعتبَر بأنه يقود إلى تفكّك الوطن، على الرغم من إصرار الشخصيات القيادية في المبادرة على أنهم لايسعون إلى الاستقلال الكامل، وليست لديهم أي مخطّطات للسيطرة على العائدات النفطية في برقة أو إنشاء جيش خاص بالمنطقة. وقد بدأ تداول نظريات المؤامرة عن التدخّل المزعوم للقوى الخارجية (كما لمّح عبد الجليل، رئيس المجلس الوطني الانتقالي). فضلاً عن ذلك، يشير معارضو الفدرالية إلى أن العديد من المنظّمين كانوا جزءاً من النظام السابق، ويستخدمون هذه الحجّة لتدعيم وجهة نظرهم: فقد اتّهم ونيس الشارف (وكيل وزارة الداخلية) الطيب الصافي الذي كان شخصية مرموقة في اللجان الثورية في عهد القذافي، بدفع أموال للمصريين كي يتظاهروا في بنغازي دعماً للفدرالية. ويُقال إن شقيق الصافي، أبو بكر، كان من الرعاة الأساسيين لمؤتمر برقة. في هذه الأجواء التآمرية، اندلعت صدامات مسلّحة في بنغازي في 16 آذار/مارس بين أنصار الفدرالية ومعارضيها.

لكن خارج إطار ردود الفعل الفورية، ثمة أسباب أعمق تجعل من المستبعد حصول هذه الطموحات على الكثير من الدعم. فغالباً ما يشير مَن يتنبّأون بتفكّك البلاد، إلى أن ليبيا لم تظهر ككيان موحّد إلا في ظل الحكم الاستعماري الإيطالي، وأنه حتى بعد استقلالها في العام 1951، قُسِّمت إلى ثلاث مناطق مختلفة - طرابلس وبرقة وفزان - يسيطر على كل منها وجهاء محليون وزعماء قبليون، وتتمتّع بجمعياتها التمثيلية وإداراتها الخاصة. وعلى الرغم من أن مؤتمر برقة سعى صراحةً إلى إحياء هذه المنظومة من جديد، إلا أن الكيانات الإقليمية التي أنشئت في العام 1951 كانت جديدة بالنسبة إلى عدد كبير من القبائل المحلية التي كانت لاتزال خارج نطاق الإدارة الحكومية إلى حدّ كبير. علاوةً على ذلك، وبعدما ساهم انطلاق الإنتاج النفطي في تعزيز سلطة الحكومة المركزية في شكل كبير، لم يمضِ وقت طويل حتى ألغيت الفدرالية في العام 1963.

شهدت الحرب الأهلية التي اندلعت في العام الماضي صعود مجالس وميليشيات محلّية تمثّل مصالح البلدات والمدن والقبائل. ونتيجةً لذلك، فإن التنظيم السياسي والعسكري، خلال النزاع وبعده، حصل في شكل عام على المستوى المحلّي، وليس على المستوى المناطقي أو الوطني. ففي حين تحوّلت الزنتان ومصراتة مركزَي ثقل على الصعيدَين العسكري والسياسي - مع إيواء مصراتة عشرات الميليشيات المختلفة - باتت كل البلدات الكبرى تقريباً تملك ألوية ومجالس عسكرية خاصة بها. والحكومة التي يعاني جيشها وأجهزتها الأمنية من الضياع، عاجزة إلى حدّ كبير عن ممارسة السيطرة على أراضيها في وجه الميليشيات المحلية، ولاتحقّق سوى تقدّم بطيء في إعادة فرض سلطتها على المراكز الحدودية والمطارات التي لايزال بعضها تحت سيطرة الميليشيات.

وهكذا، دينامية الحياة السياسية تتجلّى في شكل أساسي على المستوى المحلّي. ففي 20 شباط/فبراير، انتخبت مصراتة مجلساً محلياً جديداً بعد احتجاجات مشابهة للتظاهرات المناهضة للمجلس الوطني الانتقالي؛ وسوف تحذو مدن كبرى أخرى حذوها من خلال تنظيم انتخابات لاختيار أعضاء المجالس المحلية في الأسابيع المقبلة، كمدينة بنغازي التي تجري انتخابات في نيسان/أبريل، ومدينة طرابلس التي تجريها في أيار/مايو. إنها مبادرات محلية عفوية، وهي تتناقض مع ما يجري على الساحة الوطنية حيث ظهر عدد كبير من الأحزاب السياسية الجديدة خلال الأشهر الماضية؛ ففي مطلع آذار/مارس الجاري، انضمت جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا إلى شخصيات إسلامية معتدلة أخرى لتشكيل حزب العدالة والبناء. لكن غالب الظن أن الشخصيات المحلية سوف تسيطر على انتخابات المجلس التأسيسي في حزيران/يونيو المقبل، حيث سيتم اختيار ثلاثة أثلاث الممثّلين على أساس الدوائر الانتخابية الفردية. لكن لم يتم الكشف بعد عن تقسيمات الدوائر ووزنها، ويمكن أن تثير هذه المسألة سجالات في البلدات التي تعتبر أن تمثيلها ناقص.

كذلك، تنعكس هيمنة المجموعات النافذة ذات المصالح المحلية من خلال الصدامات الأخيرة التي وقعت بين ميليشيات من بلدات أو قبائل مختلفة في مواجهة بعضها البعض في مختلف أنحاء البلاد. وفي حالات كثيرة، تلتقي خطوط النزاعات مع انقسامات الحرب الأهلية، ما يعكس واقع الأجهزة الأمنية التي كانت تابعة للقذافي، والتي كانت تُجنَّد من قبائل معيّنة دون سواها. والمحاولات التي تبذلها مجموعة ما لاعتقال أفراد مجموعة أخرى أو نزع سلاحهم، هي من أكثر الأسباب التي تقف خلف هذه الصدامات التي تحتدم في غرب ليبيا وجنوبها أكثر منه في برقة، مع العلم بأن الخصومات تزداد هناك أيضاً. وبعد الإعلان عن الحكومة الحالية في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تظاهر ممثّلون عن قبيلتَي المغاربة والعواقير في بنغازي للمطالبة بالحصول على تمثيل سياسي أكبر. وقد تصادم زعماء قبيلة العبيدات مع قادة ميليشيات أخرى في بنغازي بسبب بطء سير التحقيقات في مقتل اللواء عبد الفتاح يونس العبيدي، رئيس أركان جيش التحرير الوطني الليبي، في تموز/يوليو 2011. وقد هدّدت قبيلة العبيدات مراراً وتكراراً بإغلاق الطرق أو محطات تصدير النفط لممارسة ضغوط على القبائل الأخرى. وفي هذه الأجواء، من الصعب أن نتخيّل هذه المجموعات المختلفة تعمل معاً من أجل وحدة الإقليم، فما بالكم بالاستقلال الذاتي.

على الأرجح أن مراكز السلطة المحلية سوف تضغط من أجل نزع المركزية عن عملية صنع القرارات ونقلها إلى المستوى المحلي. يقتضي ذلك نقل السيطرة على آليات الموازنة إلى البلدات أو المحافظات، وبالتالي ترسيخ التأثير الذي اكتسبته تلك المدن والبلدات والقبائل خلال الحرب الأهلية. وخلافاً للفدرالية، يبدو أن اللامركزية تحظى بدعم واسع النطاق، حتى داخل الحكومة المركزية التي التزمت تفويض سلطتها إلى المجالس المحلية.

مؤخراً، عمد المجلس الوطني الانتقالي إلى تمديد المهلة المحدّدة لعملية إعداد الدستور إلى أربعة أشهر، والتي من المقرّر أن تبدأ بعد الانتخابات التي ستجرى في حزيران/يونيو المقبل. وهي تُعتبَر مهلة قصيرة جداً نظراً إلى أنه ليس هناك دستور سابق يمكن الاستناد إليه (ما عدا الدساتير التي كانت مطبَّقة خلال الحكم الملَكي). أما انطلاق النقاش حول اللامركزية والفدرالية ودور الكيانات السياسية المحلية، فهو مؤشّر جيد. بيد أن الاندفاعة المفاجئة نحو الاستقلال الذاتي في برقة - حتى لو لم يكن لها أساس راسخ - تثبت أنه ليست هناك أي مسلّمات في المفاوضات حول المرتكزات الأساسية للحكومة المقبلة في ليبيا.

وولفرام لاشر متخصّص في الشؤون الأفريقية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (Stiftung Wissenschaft und Politik) في برلين. تركّز أبحاثه على ليبيا والمسائل الأمنية في منطقة الصحراء والساحل. 

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.