المصدر: Getty
مقال

الشكوك تحيط بالحرب التونسية على الفساد

على الرغم من الثناء الواسع النطاق على الجهود التي يبذلها يوسف الشاهد، إلا أنه ثمة خطر بأن تتسبب بتأجيج التشنّجات على مستوى النخبة وتقويض الانتقال الديمقراطي في تونس.

 يوسف الشريف
نشرت في ١٨ يوليو ٢٠١٧

عمدت تونس، منذ أيار/مايو 2017، إلى تصعيد الحملة الجدّية التي تشنّها ضد الفساد. فقد استهدفت سلسلة من الاعتقالات والتحقيقات رجال أعمال وسياسيين وضباطاً في الشرطة والجمارك. يمكن أن تساهم هذه الخطوات الجريئة، التي يقودها رئيس الوزراء يوسف الشاهد، في التخلص من "الكلبتوقراطية"، أو حكم اللصوص، وتمكين المجتمع المدني من أجل محاربة الفساد. لكن على الرغم من الثناء الواسع على هذه الجهود، ثمة خطر أيضاً بأن تتسبّب بتأجيج التشنجات على مستوى النخبة، ويمكن أن تؤدّي المقاربة السلطوية في التعامل مع حملة مكافحة الفساد إلى تقييد الحريات الضرورية من أجل قيام ديقراطية متينة.

منذ العام 2011، أخذت كل الحكومات في تونس على عاتقها مهمة محاربة الفساد، غير أنها لم تحقّق سوى نتائج محدودة. لا بل ازداد الفساد سوءاً: وفقاً لمؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، تراجعت تونس من المرتبة 59 من أصل 178 في العام 2010 إلى المرتبة 73 في العام 2011 و79 في العام 2013، ثم تحسّنت قليلاً وتقدّمت إلى المرتبة 75 في العام 2016. هذه كانت الشكوى الأكبر لدى التونسيين من الأوضاع في بلادهم، وكذلك ضاق الشركاء الدوليون لتونس ذرعاً باستفحال الفساد الذي تسبّب بعرقلة الإصلاحات الاقتصادية. أورد اتفاق قرطاج – أي إطار العمل الخاص بحكومة الوحدة الوطنية برئاسة يوسف الشاهد، التي تشكّلت في آب/أغسطس 2016 – مكافحة الفساد في المرتبة الثالثة بين أولوياته. غير أن قلّة توقّعت أن يبادر الشاهد إلى التحرّك، لا سيما وأنه لحزبه، نداء تونس، مصادر تمويل غير شفّافة كان كثرٌ يشتبهون بأنها تتسبّب بالإبقاء على الفساد واستمراره.

في مقابلة في 23 تشرين الأول/أكتوبر 2016، قال شفيق جراية – وهو رجل أعمال تحوّل سياسياً وازداد تأثيره وثروته إلى حد كبير بعد العام 2011، ما دفع بعدد كبير من التونسيين إلى إشتباه الفساد – إن الشاهد ضعيف جداً إلى درجة أنه "لا يستطيع حتى وضع برشني (ماعز صغير) في السجن". لسخرية القدر، كان جراية أول الأشخاص الذين سقطوا عندما بدأ الشاهد حربه المفاجئة على الفساد، والتي اشتملت إلى حد كبير على توقيفات وتجميد أصول. ففي 23 أيار/مايو، ألقى عناصر من الحرس الوطني القبض على جراية بتهمة "الاعتداء على أمن الدولة"، في خطوة يبدو أنها على صلة بالزيارة التي كان قد قام بها قبل أسبوع إلى جنيف، والتي اشتبهت السلطات التونسية بأن يكون قد عمل خلالها على عقد صفقات لإرسال أسلحة إلى المجموعات الإسلامية في ليبيا. في اليوم نفسه، أقدم الحرس الوطني على توقيف رجل الأعمال ياسين الشنوفي، المرشح السابق للرئاسة التونسية، بتهم الفساد واختلاس الأموال وتعريض أمن الدولة للخطر، فضلاً عن سبعة رجال أعمال آخرين وضابط في الجمارك.

في الأيام التالية، اعتُقِل مزيد من الأشخاص، بينهم صابر العجيلي، مدير عام الأمن السياحي، للاشتباه في امتلاكه روابط مع جراية؛ وثلاثة مديرين في شرطة السجون بتهمة دفع وتقاضي الرشاوى؛ وسمير الوافي، الإعلامي المثير للجدل، أيضاً بتهمة تقاضي الرشاوى وسواها من الأنشطة التي تندرج في إطار الفساد. وفي 14 حزيران/يونيو، عمد الشاهد إلى إقالة 21 مسؤولاً في الجمارك بشبهة الفساد، وأصدر أوامره بإجراء تحقيق داخلي في ممارسات 35 مسؤولاً آخر خلال زيارة مفاجئة قام بها إلى رادس، الميناء الأساسي في العاصمة تونس، والمعروف بحركة التهريب التي تمرّ عبره. استمرّت موجة التحقيقات في 28 حزيران/يونيو، عندما أقدمت السلطات على تجميد الأصول العائدة لرجل الأعمال والسياسي سليم الرياحي – مؤسّس ورئيس حزب الاتحاد الوطني الحر، والمرشح للانتخابات الرئاسية في العام 2014، ورئيس النادي الأفريقي، واحد من أهم ناديَين لكرة القدم في تونس – بتهمة تبييض الأموال عن طريق المصارف الليبية. وعلى صعيد منفصل، جرى أيضاً تجميد الأصول العائدة لضابط في الجمارك وستة رجال أعمال في 30 حزيران/يونيو.

بعض الأشخاص المستهدَفين بهذه الحملة كانوا إما مقرّبين من حزب نداء تونس أو حركة النهضة، مع الإشارة إلى أن القادة في الحزبَين فوجئوا بهذه الإجراءات. على سبيل المثال، يمتلك شفيق جراية علاقات طيّبة مع الحزبَين، وهو مقرّب على وجه الخصوص من حافظ قائد السبسي، رئيس حزب نداء تونس، وساهم في تمويل الحملة الانتخابية للحزب في العام 2014. في 24 أيار/مايو، كان حزب آفاق تونس، وهو عضو أصغر حجماً في الائتلاف الحاكم، أول حزب سياسي يُبادر إلى دعم "الحرب على الفساد" التي يشنّها الشاهد. وقد استغرق حزب نداء تونس وحركة النهضة ساعات إضافية عدّة لامتصاص الصدمة الأولية للتوقيفات العشرة الأولى، والتعبير بحذر عن الدعم للحملة بعدما لمسا مدى شعبيتها في أوساط التونسيين.

يبدو أن الشاهد يسبح بعيداً عن الإجماع السياسي الذي قاده إلى السلطة. كانت علاقاته مع حافظ قائد السبسي متشنّجة في الأصل، ونادراً ما يجتمع بقادة النهضة. يثير الشاهد، عبر بذله أحادياً مساعي لمكافحة الفساد، مزيداً من الانقسامات داخل حزب نداء تونس، الذي كان يعاني في الأصل من استقالات أسبوعية في صفوف الأعضاء والمانحين. وعلى الرغم من أن أياً من الحزبَين لم يحاول وقف الحملة، وجّه بعض قادتهما انتقادات علنية لآلية التنفيذ، ومنهم محمد بن سالم، عضو مجلس الشورى في حركة النهضة.

إلا أن أفرقاء آخرين لا يزالون غير مقتنعين بأن الحملة جدّية في استئصال الفساد بمختلف أشكاله. واقع الحال هو أن معظم الأشخاص الذين تم استهدافهم منذ أيار/مايو الماضي ينتمون إلى فئة الأثرياء الجدد الذين جمعوا ثرواتهم بعد العام 2011، وهم عبارة عن "نخبة ناشئة" يتحدّر معظم أعضائها من المناطق المهمّشة في تونس، وهذة النخبة منفصلة جزئياً عن النخبة التقليدية في البلاد. في المقابل، تحوم شبهات واسعة حول بعض العائلات والشخصيات المثيرة للجدل منتمية إلى الطبقة الأوليغارشية لما قبل العام 2011 في العاصمة تونس وسواها من مدن الساحل الشرقي، على خلفية اتهامها بارتكاب جرائم مثل التهريب والمحاباة والتهرّب الضريبي – إنما لم يتم حتى الآن المساس بأعضائها في غالبيتهم الكبرى. إذا استمرّت التوقيفات على هذا المنوال، قد تتحوّل حرب الشاهد على الفساد إلى معركة بين العشائر والمجموعات العائلية، ما سيؤدّي إلى تهميش عدد كبير من أنصاره الحاليين، لا سيما في أوساط المجتمع المدني والشباب. وقد يتسبّب ذلك أيضاً بتعاظم مشاعر الإحباط والحقرة في المناطق المهمّشة التي يتحدّر منها عدد كبير من أبناء النخب الناشئة: على سبيل المثال، يعمل معظم المهرّبين في المناطق الحدودية الفقيرة، حيث بنوا قاعدة اجتماعية قوية. قد ينظر السكّان المحليون إلى المهرّبين الموقوفين بأنهم ضحايا منظومة غير عادلة، ومجحفة بحق مناطقهم، الأمر الذي من شأنه أن يؤدّي بدوره إلى ظهور مشاعر الكراهية تجاه الدولة.

علاوةً على ذلك، لم تقدّم الحكومة معلومات وافية عن حربها على الفساد. فباستثناء بعض التعليقات الصادرة عن الشاهد ووزرائه، لم تُلقَ أي خطب بهذا الخصوص حتى تاريخه، ولم يتم الإعلان عن أي استراتيجية واضحة لمكافحة الفساد. لقد جرى تعيين جلسة برلمانية في 20 تموز/يوليو الجاري لمناقشة الإجراءات المتخذة، أي بعد انقضاء شهرَين على انطلاق الحملة. هذا يتعارض مع مبادئ اتفاق قرطاج، وقد أدّى إلى زيادة التكهنات، لا سيما في أوساط المشكّكين بالحملة ومنتقديها، بأن الشاهد يتجنّب عمداً تطبيق الإجراءات على بعض النخب التقليدية.

على الرغم من غياب الشفافية – ومع أن التوقيفات تمّت بموجب حال الطوارئ المعمول به منذ 15 تشرين الثاني/نوفمبر، وبطريقة تكاد تكون غير قانونية – لقيت حرب الشاهد على الفساد استحساناً أيضاً من المجتمع الدولي. اللافت هو أن التخطيط للتوقيفات تم بسرّية على يد نواة من الأشخاص المقرّبين من رئيس الوزراء. صدرت التهم عن إحدى المحاكم العسكرية، وليس عن قاضٍ مدني، وتولّى الحرس الوطني، وليس الشرطة، تنفيذ التوقيفات. لقد التزم معظم النشطاء المعروفين بدفاعهم عن حقوق الإنسان الصمت حول هذه المسألة، وقدّم العديد من منظمات مكافحة الفساد، مثل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ومنظمة "أنا يقظ" (الفرع التونسي لمنظمة الشفافية الدولية)، دعمه للحملة.

عمدت الحكومة أيضاً إلى زيادة التدقيق في المنظمات غير الحكومية، ومنحتها مهلة شهر واحد اعتباراً من 12 حزيران/يونيو للكشف عن مصادر تمويلها الأجنبي – مع العلم بأنه لم تُتَّخذ أي إجراءات بحق هذه المنظمات منذ انقضاء المهلة في 12 تموز/يوليو. ويأتي ذلك في أعقاب حملة شُنَّت في العام 2014 ضد المنظمات غير الحكومية المرتبطة بالإسلاميين التي تحصل على التمويل من مصادر مشبوهة، والتي حامت حول بعضها شبهات تمويل الإرهاب – وبعدها سلّط الإعلام الضوء على عدد قليل من الحالات الأصغر نطاقاً. بيد أن هذه الخطوات تشبه مشكلة لمعظم المنظمات غير الحكومية الناشطة، فهي صغيرة الحجم وحديثة العهد وهشّة، تؤدّي إلى صعوبات متزايدة في الحصول على التمويل. فضلاً عن ذلك، إذا صعّدت الحكومة إجراءات التدقيق في نشاط هذه المنظمات وحوّلتها إلى قمع باسم مكافحة الفساد أو حماية الأمن القومي، سوف تواجه المنظمات غير الحكومية التي توجّه سهام انتقادها إلى الحكومة، خطر الإغلاق، كما حصل في مصر.

علاوةً على ذلك، من شأن الاستخدام المتواصل لحال الطوارئ من أجل تبرير التوقيفات واللجوء إلى المحاكم العسكرية أن يتسبّب بتقويض المؤسسات المدنية في تونس والحكم شبه المدني الذي تخضع له البلاد منذ عقود. وفي حال تكرّر اللجوء إلى هذه الإجراءات السلطوية لاجتثاث الفساد، سوف يؤدّي ذلك إلى القضاء على الإنجازات التي حقّقتها تونس في مجالات حقوق الإنسان، وحرية التعبير، وسيادة القانون، ويُعيد البلاد إلى الدولة البوليسية التعسّفية التي كانت قائمة قبل العام 2011.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

يوسف الشريف معلّق تونسي ومستشار للشؤون السياسية في شمال أفريقيا. لمتابعته عبر تويتر faiyla@

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.