المصدر: Getty
مقال

حكومة الوحدة في تونس، بعد عام على تشكيلها

ما مدى فعالية سياسات يوسف الشاهد في معالجة المشاكل التي تعاني منها تونس؟

 نقاش صدى
نشرت في ٢٦ يوليو ٢٠١٧

في آب/أغسطس 2016، وافق مجلس النواب التونسي بأكثرية ساحقة على تثبيت تعيين يوسف الشاهد رئيساً للوزراء، بعد شهر من المفاوضات لتشكيل حكومة وحدة تطلّع كثرٌ إلى أن تكون أكثر فعالية في تطبيق الإصلاحات من الحكومة السابقة التي عانت من الانقسامات في  صفوفها. لقد قطع الشاهد وعداً بإعطاء الأولوية لمحاربة الإرهاب، وتعزيز النمو الاقتصادي، ومكافحة الفساد، من جملة أمور أخرى. وقد تصدّرت حكومته، بعد نحو عام على تشكيلها، العناوين الرئيسة على ضوء التقدّم الذي حققته على هذه الجبهات، لكنها لا تزال تواجه تحدّيات مهمة.

يلقي أربعة خبراء نظرة على السياسات التونسية خلال العام المنصرم، ويبحثون في مدى فعاليتها في معالجة المشاكل التي تعاني منها البلاد.

ندعوكم إلى الانضمام إلى النقاش عبر مشاركتنا آراءكم في قسم التعليقات.

الشاهد وفعل التوازن الاقتصادي

فاضل علي رضا

واجه يوسف الشاهد، في عامه الأول على رأس الحكومة التونسية، تحدّيات هائلة في السياسة الاقتصادية. فمن جهة، وجد نفسه أمام مهمة استرضاء الدائنين الدوليين الذين مارسوا ضغوطاً مطردة على الحكومة لوضع العجز المالي في رأس قائمة التحديات الاقتصادية التي تواجهها تونس. ومن جهة أخرى، كان عليه أن يتوجّه شخصياً لزيارة النقاط الساخنة اقتصادياً واجتماعياً، حيث تؤدّي اللامساواة بين المناطق إلى اندلاع تحركات احتجاجية، وتطرح تحدّياً أمام نموذج إعادة التوزيع الذي تنتهجه الدولة التونسية. في حين أن القيام بالأمرَين معاً ليس مستحيلاً، إلا أنهما يجسّدان أولويتَين متباينتين تندرجان، في الممارسة، في إطار أيديولوجيتَين اقتصاديتين متعارضتَين: النيوليبرالية والنموذج الذي تقوده الدولة. لقد أدّت المحاولات الآيلة إلى الاستجابة لهذين المطلبَين إلى تقويض الرأسمال السياسي لحكومةٍ بنت شرعيتها على إجماع سياسي هش بين أحزاب سياسية تعاني من انقسامات داخلية ومن غياب ثقة الناخبين بها.

يُخصَّص نحو ستة مليارات دينار (2.4 مليارَي دولار أميركي) من الموازنة التونسية للعام 2017 البالغة 32 مليار دينار (13 مليار دولار أميركي)، لخدمة الدين العام. من الدائنين الأكثر تشدداً في المطالب التي يفرضونها على الدولة التونسية، صندوق النقد الدولي الذي يحدّد بصورة منتظمة وصريحة السياسات – التي هي عبارة في الواقع عن شروط للحصول على قروض – التي ينبغي على الحكومة التونسية تطبيقها، وقوامها في شكل أساسي إلغاء الضوابط والقيود واعتماد الخصخصة تماشياً مع العقيدة النيوليبرالية. قبيل التصويت على موازنة 2017، تعرّضت حكومة الشاهد لضغوط من صندوق النقد الدولي من أجل زيادة الإيرادات وخفض النفقات، والتي تجلّت في شكل اقتراح لفرض ضرائب جديدة على عدد قليل من المجموعات الأساسية، وتجميد رواتب موظّفي القطاع العام. غير أن الاتحاد العام التونسي لللشغل، وهو النقابة العمّالية الأساسية في البلاد، كان قد تلقّى وعداً بزيادة الأجور بموجب اتفاق جرى توقيعه مع الحبيب الصيد الذي كان رئيساً للوزراء قبل الشاهد. لقد نجح الاتحاد العام التونسي للشغل في جعل الموازنة تقتصر على إجراءات تقشفية أقل حدة – تجميد التوظيف في القطاع العام، وتقسيط الزيادات المقررة في الرواتب.

مع تبنّي إجراءات تقشفية أقل من تلك الموصى باعتمادها في الموازنة، عمد صندوق النقد الدولي إلى إرجاء تسليم الدفعة الثانية من القرض البالغة قيمته 320 مليون دولار، بسبب "عدم إحراز تقدّم في الإصلاحات، بما في ذلك مشروع القانون المتعلق برواتب القطاع العام، والمالية العامة، والمصارف التابعة للدولة"، بحسب ما جاء على لسان وزيرة المالية آنذاك لمياء الزريبي. واستمر هذا التأجيل حتى قطعت الحكومة وعداً، كما أُفيد، في ربيع 2017 بإلغاء عشرة آلاف وظيفة في القطاع العام وبيع حصتها في ثلاثة مصارف مملوكة من الدولة. في حين يبدو أن الاتحاد العام التونسي للشغل فاز في الجولة الأولى من النقاش حول الموازنة في أواخر العام 2016، شهد العام الجاري اتخاذ حكومة الشاهد خطوات بهدف الاستجابة للرؤية التي وضعها صندوق النقد الدولي حول "الانتقال الاقتصادي في تونس" – والتي "تقتضي تحوّلاً من القطاع العام نحو قطاع خاص تنافسي"، بحسب ما ورد في المراجعة الأولى التي أجراها الصندوق لبرنامج القرض.

بيد أن التحركات الاقتصادية والاجتماعية التي تطالب الدولة بتأمين الوظائف والاستثمارات وإعادة توزيع الموارد، تستمر في ممارسة الضغوط على الشاهد – فتتسبّب بإحباط سياسات التقشف وإعادة هيكلة الدور الاقتصادي للدولة وفقاً للشروط التي تفرضها المقاربة الصارمة التي يطلب صندوق النقد الدولي من الدولة التونسية اعتمادها لخفض العجز. وقد تمثّلت التحركات الأقوى في الاحتجاجات التي شهدتها مدينتا تطاوين وقبلي، اعتباراً من نيسان/أبريل الماضي، والتي أدّت إلى تعطيل استخراج المواد الهيدروكربونية أو نقلها. وفي هذا الإطار، زعمت وزيرة الطاقة، هالة شيخ روحو، أن هذا التعطيل يكلّف الدولة 24 مليون دينار (9.8 ملايين دولار) أسبوعياً. وقد حظي المتظاهرون بالدعم من السكان المحليين الذين يقولون إن نسبئة ضئيلة من الثروات المستخرَجة من منطقتهم عادت إليهم في شكل إنماء حكومي أو خدمات عامة، وتراوحت المطالب التي رفعوها من تأمين الوظائف والاستثمارات وصولاً إلى المطالب الأكثر جذريةً مثل إعادة التفاوض على العقود بين الدولة والشركات الأجنبية أو تأميم الموارد التونسية. عندما توجّه الشاهد إلى تطاوين في محاولة منه لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمحتجّين في أواخر نيسان/أبريل ولإبداء دعمه للمفاوضات، قوبِل بصيحات الاستهجان. في غضون ذلك، أعلن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، في خطاب ألقاه في العاشر من أيار/مايو، أنه قرّر نشر الجيش، وأنه من شأن مشروع قانون قيد النقاش هذا الصيف، ويُصوَّر بأنه يؤمّن الحماية للقوى الأمنية، "أن يُجيز للقوى الأمنية استخدام القوة الفتّاكة لحماية الممتلكات"، وهو مصطلح واسع يمكن أن ينطبق على معدات استخراج المواد الهيدروكربونية أو على الامتيازات العقارية في الصناعات الاستخراجية. كذلك طالبت احتجاجات نُظِّمت سابقاً في قرقنة، أيضاً على خلفية استخراج المواد الهيدروكربونية والحصة المحلية في ثروات الموارد المستخرَجة، بأن يتدخّل الشاهد ويضع لمسته الخاصة.

كانت مسائل اجتماعية واقتصادية أخرى في صلب إقالة عدد كبير من الوزراء في حكومة الشاهد العام الماضي. فقد ذكرت تقارير أن خليل الغرياني، الذي اقترحه الشاهد لمنصب وزير الوظيفة العمومية والحوكمة، أثار غضب الاتحاد العام التونسي للشغل على خلفية عقيدته الليبرالية كما وُصِفت – فتخلّص الشاهد من الوزارة بكاملها في آذار/مارس، ونقل مهامها إلى رئاسة الوزراء. وأدّى المعلّمون المنضوون في نقابات الذين احتجّوا على السياسات المفكّكة لوزير التربية ناجي جلول، دوراً مهماً في إقالته من منصبه في 30 نيسان/أبريل. في اليوم نفسه، أقال الشاهد وزيرة المالية لمياء الزريبي التي اتّهمها منتقدوها بالتسبّب بتسارع انخفاض قيمة العملة التونسية بسبب التصريح المتهوّر الذي صدر عنها حول النقاشات المتعلقة بتحرير الدينار – مع العلم بأن عدداً كبيراً من التونسيين اعتبر أن التراجع في قيمة الدينار سببه إشارات صندوق النقد الدولي المتكررة إلى أن الدينار "أعلى من قيمته الفعلية" (على الرغم من أن موظفي الصندوق يشدّدون على أن تصريحات الزريبي المتهوّرة وما أعقبها من انخفاض سريع في قيمة الدينار كانت تصرّفاً خاطئاً وغير مفيد).

في حين أن هذه الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية، ومجموعات المصالح، والتحركات دفعت مباشرةً بحكومة الشاهد نحو اعتماد سياسات تتعارض مع الانتقال الماكرواقتصادي الذي ينصح به الدائنون، تُقابِل بعض هذه التحركات تحركاتٌ مضادّة في أوساط بعض نخب الأعمال المحلية التقليدية. لقد توجّه الشاهد شخصياً في زيارة إلى بلدة بنقردان عند الحدود الليبية في الذكرى السنوية الأولى للهجوم على القوى الأمنية التونسية، والذي وصفه بعض المحللين بأنه محاولة تمرّد مُنيت بالفشل بسبب غياب الدعم المحلي. يعتمد الاقتصاد في بنقردان بصورة شبه كاملة على التجارة غير النظامية، أي ما يصفه البعض بالتهريب، والذي يقوم على نقل السلع الاستهلاكية من ليبيا مع تسديد نذر يسير من التعرفات الجمركية أو عدم تسديد أي تعرفات على الإطلاق. تشكّل المصالح الاقتصادية لبلدة بنقردان، التي أبدى الشاهد اهتمامه بها خلال الزيارة، بنداً إضافياً في شد الحبال الاقتصادي الذي عمل الشاهد على تسويته، بين الأفرقاء الاقتصاديين النظاميين وغير النظاميين. فرجال الأعمال التقليديون الذين يعملون في الاقتصاد النظامي ويُفيدون من الموارد والشبكات السياسية الضرورية من أجل الالتفاف على التنظيمات التونسية، يطالبون الحكومة باستمرار بالقضاء على "الاقتصاد الموازي" والتجّار غير النظاميين الذين يتسبّبون بتقويض أرباحهم. وفي العلاقة بين التجار غير النظاميين والدولة، فرض التحدي الاقتصادي الذي تطرحه اللامساواة بين المناطق، نفسه مجدداً على صناعة السياسات الاقتصادية – وعلى الرغم من سياسة مدّ اليد التي يعتمدها الشاهد، قوبِل بصيحات الاستهجان خلال زيارته بنقردان، ما يعكس غياب الثقة بالحكومة ومؤسسات الدولة على السواء.

هذا الغياب الواسع للثقة، الذي يُشير إليه المحللون واستطلاعات الرأي بقلق ووتيرة متزايدَين منذ تسوية الأزمة السياسية في العام 2013، مردّه إلى أن الحكومات المتعددة لم تعطِ الأولوية للتحدّيات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها المواطن العادي بصورة يومية. يشعر المواطنون في أعماقهم بأنهم ضعفاء اقتصادياً بسبب الارتفاع في أسعار السلع الاستهلاكية؛ وعلى الرغم من أنه لهذه الظاهرة أسباب كثيرة، إلا أنها تفاقمت بفعل الخفوضات في الدعم الحكومي للسلع وتراجع قيمة الدينار – اللذين يندرجان في إطار السياسات التي تنتهجها الحكومة بدفعٍ من الشروط التي يفرضها الدائنون. يرى المواطنون الحكومة تروّج للتقشف فيما تقطع وعوداً بالتنمية، لكن ما يلمسونه فعلياً هو التقشف وليس التنمية. إذاً وعلى الرغم من أن الشاهد اعتمد مقاربة أكثر مباشرةً عبر التوجّه شخصياً لزيارة المناطق التي تشهد اضطرابات اجتماعية واقتصادية، معطياً الأولوية في معظم الأحيان للحوار والمفاوضات ومقدِّماً إياها على الرد الأمني، إلا أن ذلك لم يُحدِث تحوّلاً جوهرياً في النظرة التي تعتبر أن الهدف الأساسي وراء ما ينطق به النظام السياسي ويفعله هو استرضاء الدائنين وكذلك النخب في الداخل.

فاضل علي رضا باحث وصحافي مستقل مقيم في تونس. لمتابعته عبر تويتر: FadilAliriza@

ما مدى فعالية سياسات يوسف الشاهد في معالجة المشاكل التي تعاني منها تونس؟ اقرأ المقالات الأخرى أدناه.

لمتابعة النقاش:

حرب تونس على الارهابي

فخرالدین اللواتي

فخرالدین اللواتي، باحث في المعهد التونسي للدراسات الاسرتاتيجية.

عيَن رئيس الجمهورية التونسية الباجي قائد السبسي "يوسف الشاهد" كرئيس لحكومة لما أُريد له أن يكون هذه المرًة توافق وطنيا حسب "وثيقة قرطاج" والتي وضعت على رأس أولوياتها كسب الحرب على الارهاب ومقاومة الفساد لتحقيق الاستقرار المنشود منذ ثورة 2011.

"ولاية" يوسف الشاهد كانت مسبوقة بوضع أمني حرج حيث شهدت سنة 2015 ثلاثة عمليات ارهابية كُبرى: هي حادثة متحف باردو في 18 آذار/مارس وهجوم على شاطئ سياحي بسوسة في 26 حزيران/يونيو، وتفجير حافلة للأمن الرئاسي بشارع محمد الخامس في 24 تشرين الثاني/نوفمبر. كما شهد تاريخ بداية 18 آذار/مارس 2016 هجوما على مدينة بن قردان الحدودية المحاذية للحدود الليبية، اضافة الى الاحتجاجات والاضرابات اليومية وشبح عودة المقاتلين التونسيين من بؤر الاقتتال والذي تجاوز عددهم ثلاثة آلاف مقاتل حسب الاحصائيات الرسمية التونسية بينما تجاوز عدد الذين تمً منعُهم من الالتحاق بالقتال 30 ألفا. هذا الوضع الداخلي يزيدهُ التأمل في التطورات الأمنية للمنطقة عُموما وللجار الليبي خُصوصا توترا وتشنُجا.

هذا المشهدُ فرض على حكومة يوسف الشاهد التسريع في وضع استراتيجية شاملة للأمن والدفاع تحمي تونس ومصالحها كما ينص عليه الدستور الجديد للبلاد. فكانت الخطوة الأولى مصادقة "مجلس الأمن القومي" التونسي على الاستراتيجية الوطنية لمقاومة التطرف والإرهاب في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 والتي تتمحور حول أربعة أسس وهي الوقاية والحماية والتتبع والردَ. كما واصلت هذه الحكومة العمل على توفير الإمكانيات الضّرورية لدعم قدرات المؤسّستين العسكرية والأمنية والخروج من المواقع الدفاعية والتقدم نحو الإرهابيين بدلا عن انتظارهم مما يتطلبُ عملا استباقيا واستخباراتيا كبيرا.

كما قامت حكومة يوسف الشاهد في بداية 2017 ببعث "منصة الخطاب البديل" التابعة لوزارة العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الانسان والهادفة الى التوقي من الفكر المتطرف في سياق تشاركي ينخرط فيه المجتمع المدني. يمكن ان نعتبر إذا أن حكومة يوسف الشاهد، والتي تبحث عن الاستقرار الأمني كقاعدة أساسية يقوم عليها النمو الاقتصاد والاستقرار الاجتماعي، قد قامت بخيار يجمع بين القوة الخشنة والقوة الناعمة في مقاربتها الأمنية ووضعت الحرب على الارهاب في مقدمة أولوياتها.

غير أن نجاح الحكومة التونسية في الحدَ من الضربات الارهابية وقدرتها على حصر الحرب على الارهاب في المنطقة العسكرية المعزولة بتُخوم "جبل الشعانبي" و "جبل سمامة" وتحصين الحدود والتقليص من الخسائر البشرية قابله تعثُر في المعاملة الأمنية مع التحركات الاجتماعية والتي وصلت حدً الانفجار مع احداث "الكامور" التي في ايار/ماي وحزيران/يونيو 2017 والتي نُشرتْ على إثرها قوات الجيش لحماية منشآت النفط والغاز من المحتجّين. احتقان الوضع أجبر رئيس الحكومة على السباحة ضد التيارات السياسة الحاكمة والبحث عن بريق جديد في ملف آخر غير ملف الارهاب مما حثهُ على بدأ حربه على الفساد لتهدئة الوضع الاجتماعي باللجوء الى الاستخدام حالة الطوارئ والتي يمكن ان يشكَل تواصلها تهديدا لإنجازات الديمقراطية الناشئة.

استطاع الشاهد تحقيق انتصارات على المدى القصير غير أن صعوبة الوضع لاقتصادي ستجعل من حوْكمةِ ملفات حارقة كخُطة التعامل مع العائدين من بؤر الاقتتال وتنفيذ استراتيجية وطنية لمعالجة الفكر المتطرف، تمكًنُ من التنسيق بين جميع الأطراف المتداخلة، مع مواصلة التضييق على التهريب ومحاربة الفساد والجريمة المنظمة أمرا غير هيَن خصوصا أن تداخل هذه المخاطر وأهميتها يُحتمُ خلق "وكالة للتنسيق الاستخباراتي والمعلوماتي" قادرة على الاستباق على المدى الطويل وجعل الاستراتيجية التونسية في هذا المجال تتكيف مع تطور المخاطر الداخلية والخارجية.

اللامركزية في الحكم؟

تسنيم عبد الرحيم

تسنيم عبد الرحيم باحثة مساعدة في برنامج المؤسسات الأفريقية في المركز الأوروبي لإدارة سياسة التنمية وفي مركز الدراسات المتوسطية والدولية. لمتابعتها عبر تويتر: Tasnim_Tn@

قبل تسلّم يوسف الشاهد رئاسة الوزراء في آب/أغسطس 2016، كان يتولّى حقيبة وزارة الشؤون المحلية التي سعت إلى إطلاق نموذج جديد في الحكم من أجل إلغاء المركزية. واقع الحال هو أن نقل السلطة إلى الطبقات الدنيا في الهرمية الحكومية عملية معقّدة وطويلة الأمد، ما يعلّل التقدم البطيء نسبياً الذي تحققه الحكومة. لقد اتُّخِذت بعض الخطوات الواعِدة، لا سيما تحديد موعد الانتخابات لاستبدال المجالس المحلية التي شُكِّلت عن طريق التعيين بمجالس تتمتع بقدر أكبر من الشرعية والسلطة، غير أن التحديات لا تزال كبيرة. عندما تسلّم الشاهد رئاسة الوزراء، أرجئت الانتخابات البلدية – التي كان من المقرّر إجراؤها في تشرين الأول/أكتوبر 2016 ثم جرى تأجيلها إلى آذار/مارس 2017 – إلى أجل غير مسمّى بسبب فشل مجلس النواب في إقرار قانون انتخابي معدَّل، وقد جرى وأخيراً إقرار القانون في شباط/فبراير 2017، الأمر الذي أتاح للهيئة العليا المستقلة للانتخابات تحديد موعد الانتخابات البلدية في 17 كانون الأول/ديسمبر 2017.

في إطار الاستعدادت للانتخابات، اتخذت وزارة العدل قراراً بإنشاء اثنتَي عشرة محكمة إدارية في المناطق، على أن تكون مهمتها تسوية الخلافات المتعلقة بالانتخابات، والتحقيق في استغلال السلطة من جانب الإدارات المحلية، والتوسّط في النزاعات الإدارية المحتملة بعد الانتخابات. غير أن تنظيم هذه المحاكم وتفويضها لا يزالان غير واضحَين. كذلك أعلنت وزارة العدل أنها ستعمد إلى توظيف مزيد من القضاة والموظفين الإداريين في دائرة المحاسبات، أي المحكمة التي تشرف على تمويل الحملات، وتضمن الإدارة الشفافة والفعالة للموارد المحلية، وسوف تؤمّن لها الموارد التقنية والمالية الضرورية. بيد أن جمعية القضاة التونسيين انتقدت هذه القرارات واصفةً إياها بـ"الأحادية" لعدم إشراكها القضاة في تحديد الأولويات، ولعدم استجابتها كما يجب لمطالبهم المتعلقة بظروف العمل وزيادة المهام الملقاة على عاتقهم.

غياب استراتيجية التواصل الواضحة والفعالة هو عنصر أساسي آخر من عناصر الضعف في إدارة الحكومة للانتخابات المحلية. ما عدا الجهود التي تبذلها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات راهناً بغية تشجيع المواطنين على التسجّل للانتخابات، لا يُبذَل مجهود كبير من أجل تعزيز معارفهم وزيادة انخراطهم في العملية. من الضروري وضع استراتيجية للتواصل بهدف إثبات مصداقية الحكومة وكسب تأييد الرأي العام لإلغاء المركزية وسواه من الإصلاحات.

بالأهمية نفسها، لا يزال التقدم نحو إقرار قانون السلطات المحلية المعروف بمجلة الجماعات المحلية، غير مرضٍ. في حين أن هناك حاجة ماسّة إلى انتخاب مجالس محلية تتمتع بالشرعية، قد يؤدّي غياب هذا الإطار التشريعي الضروري إلى التشوّش والارتباك بشأن المهام المتوقَّعة من المجالس الجديدة. تحبّذ حكومة الشاهد تنظيم الانتخابات البلدية قبل أواخر العام 2017، بحسب الموعد المقرّر. لكن في حال نُظِّمت الانتخابات البلدية قبل إقرار مجلة الجماعات المحلية، وهو سيناريو مرجّح جداً، لن تكون هناك آلية واضحة للحكم على المستوى المحلي، ما قد يتسبّب بالقضاء على المجهود برمته، ويمكن أن يؤدّي في نهاية المطاف إلى تقويض العملية الانتقالية في البلاد.

علاوةً على ذلك، سوف تشكّل المجالس البلدية الجديدة مستوى واحداً فقط من مستويات اللامركزية الثلاثة التي نصّ عليها الدستور الجديد، إلى جانب المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم. كان من المقرر في البداية أن تُجرى انتخابات المجالس الجهوية بالتزامن مع الانتخابات البلدية، لكن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عادت فأرجأتها إلى العام 2018. قد تكون الانتخابات عرضة لمزيد من التأجيل، إذ لا تزال الحكومة بحاجة إلى ترسيم حدود الأقاليم التي سيتألف كل منها من جهات عدة (أي محافظات في السياق التونسي).

يرتدي الانتقال الناجح للسلطة والمسؤوليات إلى المستوى المحلي، أهمية محورية لتعزيز المساءلة والشفافية وانخراط المواطنين والتنمية الاقتصادية. تساهم المنظومة اللامركزية في تسهيل تطوير إجراءات واستخدامها لمراقبة الحكم المحلي، مثل إشراك المجتمع المدني في الاجتماعات، والانفتاح على وسائل الإعلام. في ظل النموذج اللامركزي، يصبح المواطنون المحرّك الأساسي للتنمية المحلية، بدلاً من الحكومة المركزية التي تعطي الأولوية لمسائل أخرى، وغالب الظن أنها تتجاهل الطاقات المحلية. 

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

تعثُّر الحرب على الفساد

فاطمة الزهراء المالقي

فاطمة الزهراء المالقي، باحثة مستقلة مقيمة في واشنطن. لمتابعتها عبر تويتر: fzelmalki@

قبل لحظات من التصويت على الثقة الذي أدّى إلى تثبيت تعيين يوسف الشاهد رئيساً للحكومة في آب/أغسطس 2016، وضع الأخير خطة اقتصادية وأمنية ممتدة لثلاثة أعوام، مشدّداً على أن "الشفافية والمساءلة أمام الشعب التونسي" ستكونان ركيزتَي ولايته في رئاسة الوزراء. لقد اتّهم الشاهد أسلافه بتأمين حمايات مؤسسية للفساد على أعلى المستويات، والتساهل مع المتورّطين، مقدِّماً نفسه في صورة رأس الحربة في استراتيجية تونسية جديدة الهدف منها القضاء على الفساد في مختلف المستويات المجتمعية.

خلال العام المنصرم، أطلق الشاهد إصلاحات قانونية ومؤسسية لمعالجة جوهر المسألة، بدءاً من توسيع موازنة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد للعام 2017. الهيئة هي جهاز مستقل مهمته "منع" الفساد "واكتشافه والتحقيق" في قضايا الفساد في القطاعَين الرسمي والخاص. وقد كان الشاهد، إلى جانب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، شوقي طبيب، رأس الحربة وراء القانون الجديد للإبلاغ عن الفساد وحماية المبلّغين عنه الذي أقرّه مجلس النواب بالإجماع في شباط/فبراير 2017. لقد أدّى القانون، الذي يسعى تحديداً إلى كبح الفساد عبر حماية المبلّغين، إلى إطلاق "عملية الأيادي النظيفة"، وهي عبارة عن حملة واسعة من الإجراءات التي تطال رجال أعمال وشخصيات تونسية مرموقة منذ أيار/مايو الماضي. ويستهدف جزء كبير من الجهود الحكومية تحديداً موظّفي الجمارك وطرقات التهريب – ومن هذه التدابير إقالة مسؤولين في ميناء رادس وإحالة آخرين إلى المجلس التأديبي – والهدف منها هو معالجة قضية القطاع غير النظامي الواسع، وشبكات التهريب المتنامية.

في حين يرى البعض في سياسة الشاهد إعادة إحياء لإجراءات مكافحة الفساد على المستوى الوطني، يؤكّد المشكّكون أن حسن النية لدى الحكومة ليس كافياً لوقف الانتهاكات بصورة فعالة. هذا فضلاً عن أن الجهود الموازية – لا سيما مشروع قانون المصالحة الاقتصادية – تتسبب بتقويض استراتيجية مكافحة الفساد في تونس والمحاولات التي تُبذَل للحؤول دون العودة إلى الزبائنية والكلبتوقراطية.

في تناقض صارخ مع قانون مكافحة الفساد، أقرّ البرلمان، في 19 تموز/يوليو، سبع مواد في مشروع قانون المصالحة الاقتصادية المثير للجدل، الذي خضع لمراجعات عدة – ويلقى معارضة شديدة من مجموعات المجتمع الأهلي والجمهور الأوسع. هذا القانون، الذي أصبح اسمه الجديد قانون المصالحة الإدارية، هو الخطة التي وضعها الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي لمنح العفو لموظفي الخدمة المدنية والمسؤولين الحكوميين المتّهَمين بسرقة الأموال العامة في عهد زين العابدين بن علي، وإنهاء المحاكمات بحقهم. لقد انتقد محمد عبو، الوزير السابق المكلف بالإصلاح الإداري، القانون قائلاً بأنه يمنح حصانة غير دستورية للأشخاص الذين موّلوا الحملة الرئاسية في العام 2014، محذّراً من أنه قد يؤدّي إلى اندلاع ثورة جديدة. بالنسبة إلى حملة "مانيش مسامح" وتيارات أخرى في المجتمع المدني، هذا القانون هو بمثابة ترخيص للفساد على أعلى المستويات. كما أنه يقوّض الجهود الأخرى الهادفة إلى تطبيق أحكام العدالة الانتقالية التي تنص على وجوب محاكمة الأشخاص المتهمين بالفساد في عهد بن علي، ومصادرة الدولة للمقتنيات التي حصلوا عليها عن طريق السرقة.

أمام تونس المصنَّفة في المرتبة 75 من أصل 176 في مؤشّر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية للعام 2016، طريق طويل كي تقطعه قبل أن تنجح فعلاً في ترسيخ الإنجازات التي تحققت في إطار عملية الانتقال الديمقراطي. أولاً، ينبغي على تونس أن تصغي إلى مواطنيها وتأخذ في الاعتبار التوصيات في الميدان العام. ثانياً، يتعيّن على الدولة أن تعتمد استراتيجية سليمة ومتماسكة لا تتعارض مع آليات العدالة الانتقالية المعمول بها حالياً، بل تصب في إطار تعزيزها بالتنسيق مع جميع فروع الحكومة والمجتمع المدني.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.