واجه يوسف الشاهد، في عامه الأول على رأس الحكومة التونسية، تحدّيات هائلة في السياسة الاقتصادية. فمن جهة، وجد نفسه أمام مهمة استرضاء الدائنين الدوليين الذين مارسوا ضغوطاً مطردة على الحكومة لوضع العجز المالي في رأس قائمة التحديات الاقتصادية التي تواجهها تونس. ومن جهة أخرى، كان عليه أن يتوجّه شخصياً لزيارة النقاط الساخنة اقتصادياً واجتماعياً، حيث تؤدّي اللامساواة بين المناطق إلى اندلاع تحركات احتجاجية، وتطرح تحدّياً أمام نموذج إعادة التوزيع الذي تنتهجه الدولة التونسية. في حين أن القيام بالأمرَين معاً ليس مستحيلاً، إلا أنهما يجسّدان أولويتَين متباينتين تندرجان، في الممارسة، في إطار أيديولوجيتَين اقتصاديتين متعارضتَين: النيوليبرالية والنموذج الذي تقوده الدولة. لقد أدّت المحاولات الآيلة إلى الاستجابة لهذين المطلبَين إلى تقويض الرأسمال السياسي لحكومةٍ بنت شرعيتها على إجماع سياسي هش بين أحزاب سياسية تعاني من انقسامات داخلية ومن غياب ثقة الناخبين بها.
يُخصَّص نحو ستة مليارات دينار (2.4 مليارَي دولار أميركي) من الموازنة التونسية للعام 2017 البالغة 32 مليار دينار (13 مليار دولار أميركي)، لخدمة الدين العام. من الدائنين الأكثر تشدداً في المطالب التي يفرضونها على الدولة التونسية، صندوق النقد الدولي الذي يحدّد بصورة منتظمة وصريحة السياسات – التي هي عبارة في الواقع عن شروط للحصول على قروض – التي ينبغي على الحكومة التونسية تطبيقها، وقوامها في شكل أساسي إلغاء الضوابط والقيود واعتماد الخصخصة تماشياً مع العقيدة النيوليبرالية. قبيل التصويت على موازنة 2017، تعرّضت حكومة الشاهد لضغوط من صندوق النقد الدولي من أجل زيادة الإيرادات وخفض النفقات، والتي تجلّت في شكل اقتراح لفرض ضرائب جديدة على عدد قليل من المجموعات الأساسية، وتجميد رواتب موظّفي القطاع العام. غير أن الاتحاد العام التونسي لللشغل، وهو النقابة العمّالية الأساسية في البلاد، كان قد تلقّى وعداً بزيادة الأجور بموجب اتفاق جرى توقيعه مع الحبيب الصيد الذي كان رئيساً للوزراء قبل الشاهد. لقد نجح الاتحاد العام التونسي للشغل في جعل الموازنة تقتصر على إجراءات تقشفية أقل حدة – تجميد التوظيف في القطاع العام، وتقسيط الزيادات المقررة في الرواتب.
مع تبنّي إجراءات تقشفية أقل من تلك الموصى باعتمادها في الموازنة، عمد صندوق النقد الدولي إلى إرجاء تسليم الدفعة الثانية من القرض البالغة قيمته 320 مليون دولار، بسبب "عدم إحراز تقدّم في الإصلاحات، بما في ذلك مشروع القانون المتعلق برواتب القطاع العام، والمالية العامة، والمصارف التابعة للدولة"، بحسب ما جاء على لسان وزيرة المالية آنذاك لمياء الزريبي. واستمر هذا التأجيل حتى قطعت الحكومة وعداً، كما أُفيد، في ربيع 2017 بإلغاء عشرة آلاف وظيفة في القطاع العام وبيع حصتها في ثلاثة مصارف مملوكة من الدولة. في حين يبدو أن الاتحاد العام التونسي للشغل فاز في الجولة الأولى من النقاش حول الموازنة في أواخر العام 2016، شهد العام الجاري اتخاذ حكومة الشاهد خطوات بهدف الاستجابة للرؤية التي وضعها صندوق النقد الدولي حول "الانتقال الاقتصادي في تونس" – والتي "تقتضي تحوّلاً من القطاع العام نحو قطاع خاص تنافسي"، بحسب ما ورد في المراجعة الأولى التي أجراها الصندوق لبرنامج القرض.
بيد أن التحركات الاقتصادية والاجتماعية التي تطالب الدولة بتأمين الوظائف والاستثمارات وإعادة توزيع الموارد، تستمر في ممارسة الضغوط على الشاهد – فتتسبّب بإحباط سياسات التقشف وإعادة هيكلة الدور الاقتصادي للدولة وفقاً للشروط التي تفرضها المقاربة الصارمة التي يطلب صندوق النقد الدولي من الدولة التونسية اعتمادها لخفض العجز. وقد تمثّلت التحركات الأقوى في الاحتجاجات التي شهدتها مدينتا تطاوين وقبلي، اعتباراً من نيسان/أبريل الماضي، والتي أدّت إلى تعطيل استخراج المواد الهيدروكربونية أو نقلها. وفي هذا الإطار، زعمت وزيرة الطاقة، هالة شيخ روحو، أن هذا التعطيل يكلّف الدولة 24 مليون دينار (9.8 ملايين دولار) أسبوعياً. وقد حظي المتظاهرون بالدعم من السكان المحليين الذين يقولون إن نسبئة ضئيلة من الثروات المستخرَجة من منطقتهم عادت إليهم في شكل إنماء حكومي أو خدمات عامة، وتراوحت المطالب التي رفعوها من تأمين الوظائف والاستثمارات وصولاً إلى المطالب الأكثر جذريةً مثل إعادة التفاوض على العقود بين الدولة والشركات الأجنبية أو تأميم الموارد التونسية. عندما توجّه الشاهد إلى تطاوين في محاولة منه لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمحتجّين في أواخر نيسان/أبريل ولإبداء دعمه للمفاوضات، قوبِل بصيحات الاستهجان. في غضون ذلك، أعلن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، في خطاب ألقاه في العاشر من أيار/مايو، أنه قرّر نشر الجيش، وأنه من شأن مشروع قانون قيد النقاش هذا الصيف، ويُصوَّر بأنه يؤمّن الحماية للقوى الأمنية، "أن يُجيز للقوى الأمنية استخدام القوة الفتّاكة لحماية الممتلكات"، وهو مصطلح واسع يمكن أن ينطبق على معدات استخراج المواد الهيدروكربونية أو على الامتيازات العقارية في الصناعات الاستخراجية. كذلك طالبت احتجاجات نُظِّمت سابقاً في قرقنة، أيضاً على خلفية استخراج المواد الهيدروكربونية والحصة المحلية في ثروات الموارد المستخرَجة، بأن يتدخّل الشاهد ويضع لمسته الخاصة.
كانت مسائل اجتماعية واقتصادية أخرى في صلب إقالة عدد كبير من الوزراء في حكومة الشاهد العام الماضي. فقد ذكرت تقارير أن خليل الغرياني، الذي اقترحه الشاهد لمنصب وزير الوظيفة العمومية والحوكمة، أثار غضب الاتحاد العام التونسي للشغل على خلفية عقيدته الليبرالية كما وُصِفت – فتخلّص الشاهد من الوزارة بكاملها في آذار/مارس، ونقل مهامها إلى رئاسة الوزراء. وأدّى المعلّمون المنضوون في نقابات الذين احتجّوا على السياسات المفكّكة لوزير التربية ناجي جلول، دوراً مهماً في إقالته من منصبه في 30 نيسان/أبريل. في اليوم نفسه، أقال الشاهد وزيرة المالية لمياء الزريبي التي اتّهمها منتقدوها بالتسبّب بتسارع انخفاض قيمة العملة التونسية بسبب التصريح المتهوّر الذي صدر عنها حول النقاشات المتعلقة بتحرير الدينار – مع العلم بأن عدداً كبيراً من التونسيين اعتبر أن التراجع في قيمة الدينار سببه إشارات صندوق النقد الدولي المتكررة إلى أن الدينار "أعلى من قيمته الفعلية" (على الرغم من أن موظفي الصندوق يشدّدون على أن تصريحات الزريبي المتهوّرة وما أعقبها من انخفاض سريع في قيمة الدينار كانت تصرّفاً خاطئاً وغير مفيد).
في حين أن هذه الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية، ومجموعات المصالح، والتحركات دفعت مباشرةً بحكومة الشاهد نحو اعتماد سياسات تتعارض مع الانتقال الماكرواقتصادي الذي ينصح به الدائنون، تُقابِل بعض هذه التحركات تحركاتٌ مضادّة في أوساط بعض نخب الأعمال المحلية التقليدية. لقد توجّه الشاهد شخصياً في زيارة إلى بلدة بنقردان عند الحدود الليبية في الذكرى السنوية الأولى للهجوم على القوى الأمنية التونسية، والذي وصفه بعض المحللين بأنه محاولة تمرّد مُنيت بالفشل بسبب غياب الدعم المحلي. يعتمد الاقتصاد في بنقردان بصورة شبه كاملة على التجارة غير النظامية، أي ما يصفه البعض بالتهريب، والذي يقوم على نقل السلع الاستهلاكية من ليبيا مع تسديد نذر يسير من التعرفات الجمركية أو عدم تسديد أي تعرفات على الإطلاق. تشكّل المصالح الاقتصادية لبلدة بنقردان، التي أبدى الشاهد اهتمامه بها خلال الزيارة، بنداً إضافياً في شد الحبال الاقتصادي الذي عمل الشاهد على تسويته، بين الأفرقاء الاقتصاديين النظاميين وغير النظاميين. فرجال الأعمال التقليديون الذين يعملون في الاقتصاد النظامي ويُفيدون من الموارد والشبكات السياسية الضرورية من أجل الالتفاف على التنظيمات التونسية، يطالبون الحكومة باستمرار بالقضاء على "الاقتصاد الموازي" والتجّار غير النظاميين الذين يتسبّبون بتقويض أرباحهم. وفي العلاقة بين التجار غير النظاميين والدولة، فرض التحدي الاقتصادي الذي تطرحه اللامساواة بين المناطق، نفسه مجدداً على صناعة السياسات الاقتصادية – وعلى الرغم من سياسة مدّ اليد التي يعتمدها الشاهد، قوبِل بصيحات الاستهجان خلال زيارته بنقردان، ما يعكس غياب الثقة بالحكومة ومؤسسات الدولة على السواء.
هذا الغياب الواسع للثقة، الذي يُشير إليه المحللون واستطلاعات الرأي بقلق ووتيرة متزايدَين منذ تسوية الأزمة السياسية في العام 2013، مردّه إلى أن الحكومات المتعددة لم تعطِ الأولوية للتحدّيات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها المواطن العادي بصورة يومية. يشعر المواطنون في أعماقهم بأنهم ضعفاء اقتصادياً بسبب الارتفاع في أسعار السلع الاستهلاكية؛ وعلى الرغم من أنه لهذه الظاهرة أسباب كثيرة، إلا أنها تفاقمت بفعل الخفوضات في الدعم الحكومي للسلع وتراجع قيمة الدينار – اللذين يندرجان في إطار السياسات التي تنتهجها الحكومة بدفعٍ من الشروط التي يفرضها الدائنون. يرى المواطنون الحكومة تروّج للتقشف فيما تقطع وعوداً بالتنمية، لكن ما يلمسونه فعلياً هو التقشف وليس التنمية. إذاً وعلى الرغم من أن الشاهد اعتمد مقاربة أكثر مباشرةً عبر التوجّه شخصياً لزيارة المناطق التي تشهد اضطرابات اجتماعية واقتصادية، معطياً الأولوية في معظم الأحيان للحوار والمفاوضات ومقدِّماً إياها على الرد الأمني، إلا أن ذلك لم يُحدِث تحوّلاً جوهرياً في النظرة التي تعتبر أن الهدف الأساسي وراء ما ينطق به النظام السياسي ويفعله هو استرضاء الدائنين وكذلك النخب في الداخل.
فاضل علي رضا باحث وصحافي مستقل مقيم في تونس. لمتابعته عبر تويتر: FadilAliriza@
ما مدى فعالية سياسات يوسف الشاهد في معالجة المشاكل التي تعاني منها تونس؟ اقرأ المقالات الأخرى أدناه.
لمتابعة النقاش: