مصر
وضعت الحرب الروسية في أوكرانيا الحكومة المصرية أمام تحدّيَين أساسيَّين وفوريَّين.
أولًا، تحصل مصر، التي تتصدّر قائمة الدول المستوردة للقمح في العالم، على 85 في المئة من حاجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا مجتمعتَين. وعلى نحوٍ متوقع، أدّى الاختلال في إنتاج القمح الأوكراني وسلاسل التصدير، فضلًا عن التبعات الحادة للعقوبات التي فُرِضت على الأنشطة الاقتصادية والتجارية الروسية، إلى ارتفاع شديد في أسعار القمح. وسيكون على الحكومة المصرية استخدام المزيد من مواردها المالية لتأمين إمدادات القمح ودرء المخاطر التي تهدّد الأمن الغذائي للبلاد. ويعود ذلك جزئيًا إلى التضخم الشديد الذي تعاني منه مصر، ويُتوقَّع أن يرتفع 2.3 نقطة مئوية ليسجّل 7.5 في المئة هذا العام، فضلًا عن تراجع قيمة الجنيه المصري. ومن العوامل الأخرى ارتفاع أسعار السلع الأساسية، ومنها الخبز الذي يسجّل ارتفاعًا في سعره بسبب الإجراءات التي أُعلِن عنها سابقًا لإصلاح نظام الدعم. وغالب الظن أن موارد مالية إضافية ستُخصَّص لضبط أسعار الرغيف، ولا سيما أن معدل الفقر في أوساط السكان يناهز 30 في المئة. ويُعتبر إعلان الحكومة مؤخرًا عن توسيع مساحة الأراضي المخصّصة لزراعة القمح بواقع مليونَي فدان بحلول نهاية سنة 2024 استراتيجية متوسطة الأجل يمكن تطبيقها لتعزيز الأمن الغذائي في مصر، ولكنه لا يخفّف من الأوضاع الهشّة الفورية التي يعاني منها السكان بسبب الحرب الأوكرانية.
ثانيًا، أقامت الحكومة المصرية علاقات وطيدة مع روسيا في الأعوام الأخيرة، شملت مبيعات السلاح، والتعاون لبناء مصنع للطاقة النووية في شمال غرب البلاد، وتعزيز الروابط الاقتصادية والتجارية. ووجدت مصر أيضًا نقاط تقارب استراتيجية بين خياراتها السياساتية في سورية وليبيا والمصالح السياساتية للحكومة الروسية. والحال هو أن الحكومة المصرية أيّدت بصمتٍ التدخل العسكري الروسي في سورية وقبلت بالهدف السياسي الروسي المتمثّل في الإبقاء على حكم الرئيس السوري بشار الأسد. ودعمت الحكومتان أيضًا اللواء خليفة حفتر وحلفاءه في ليبيا وقدّمتا لهم مساعدات عسكرية ومالية.
لكن العلاقة المصرية المتنامية مع روسيا والتقاء سياسات البلدَين في مناطق النزاع في الشرق الأوسط لم يقوّضا شراكة مصر الاستراتيجية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وقد أرغمت الحرب في أوكرانيا الحكومة المصرية على السير على خيط رفيع بين روسيا والغرب، واحتلّت المناورات الدبلوماسية موقعًا متقدّمًا في جدول أعمال صنّاع السياسات المصريين في الأيام الأخيرة. فقد أصدرت الحكومة المصرية، بعد ساعات قليلة من تصويتها في مجلس الأمن الدولي مع قرار إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، بيانًا سلّطت فيه الضوء على الحاجة الملحّة إلى معالجة هواجس الأمن القومي المشروعة لروسيا في ما يتعلق بأوكرانيا، وانتقدت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا على موسكو، مُعتبرةً أنها غير قانونية من منظور القانون الدولي. وفي حال استمر التصعيد في المواجهة بين روسيا والغرب، ستتراجع على الأرجح قدرة الحكومة المصرية على المناورة بين الطرفَين، وسيتعيّن عليها قريبًا جدًّا أن تختار بينهما.
—عمرو حمزاوي
إيران
أحدث الغزو الروسي لأوكرانيا انعطافة غير متوقعة في اللحظة الأخيرة في المفاوضات الرامية إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني للعام 2015.
لقد منع المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي الدبلوماسيين الإيرانيين من التفاوض مباشرةً مع الولايات المتحدة، ولذلك كانت موسكو خلال العام المنصرم وسيطًا أساسيًا بين واشنطن وطهران، فقادت المفاوضات النووية في مسار بدا آنذاك وكأنه يتجه نحو خواتيمه.
ولكن في خضم حملة الضغوط العالمية المفاجئة والشديدة التي تتعرّض لها روسيا، أعادت موسكو تقييم دورها التيسيري، وهدّدت ضمنًا بضرب الاتفاق النووي الإيراني تحقيقًا لمصالحها الخاصة.
تريد روسيا، التي حلّت الآن مكان إيران في موقع الدولة الأكثر خضوعًا للعقوبات في العالم، أن تُشعِر المجتمع الدولي بالوطأة الاقتصادية التي تترتّب عن فرض حظر على النفط الروسي. ففي حال التوصل إلى اتفاق نووي يُنهي الحظر المفروض على النفط الإيراني، من شأن ذلك أن يخفف من حدّة التداعيات المالية العالمية الناجمة عن عزل روسيا.
يدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضًا أن إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني تهمّ الرئيس الأميركي جو بايدن أكثر بكثير مما تهمّه شخصيًا. فهو لا يشعر بأن التقدّم النووي الإيراني يشكّل تهديدًا له، وكانت عزلة إيران مفيدة للمصالح الروسية: فإيران تعتمد على التكنولوجيا الروسية من الدرجة الثانية، وتناصب العداء للولايات المتحدة، وهي عاجزة عن استثمار مواردها الطائلة في مجال الطاقة، ولا تكترث للمنافسة التاريخية بينها وبين موسكو في آسيا الوسطى. وفي هذا الصدد، قال رجب سافاروف، أحد كبار الباحثين الروس المتخصّصين في الشأن الإيراني، في مقابلة معه مؤخرًا إن "إيران الموجّهة نحو الغرب ستكون أسوأ لروسيا من إيران المسلّحة نوويًا، وستقود إلى انهيار روسيا".
تسبّبت هذه المكائد الروسية بتجدّد مشاعر عدم الثقة التي يكنّها عدد كبير من المواطنين الإيرانيين تاريخيًا للجار الروسي الشمالي الذي تحرّكه الأطماع. ففي القرن التاسع عشر، استولت روسيا الإمبريالية بالقوة على مساحات شاسعة من الأراضي في القوقاز منتزعةً السيطرة عليها من إيران. وفي العام 1946، احتلت القوات السوفياتية إقليم أذربيجان شمال غرب إيران وسعت إلى ضمّه إليها، ولكنها طُرِدت منه بفضل مساعي الرئيس الأميركي آنذاك هاري ترومان. إنها فعلًا لمفارقة غريبة من مفارقات التاريخ أن روسيا وإيران هما اليوم شريكان استراتيجيان، في حين أن الولايات المتحدة وإيران عدوّان لدودان.
على الرغم من التكهنات بأن انعدام الثقة المتبادل تجاه روسيا قد يسهم في تعزيز التعاون الأميركي-الإيراني، يبقى أن الغزو الروسي لأوكرانيا لم يؤدِّ إلى إعادة اصطفاف جيوسياسية كبرى، بل قاد إلى تعزيز التحالفات العالمية القائمة. وفي ظل غياب التغيير على مستوى القيادة في موسكو أو طهران، فإن عزلة البلدَين ونقمتهما تجاه الغرب ستدفعهما في نهاية المطاف إلى تعزيز الاعتماد المتبادل بينهما بدلًا من تراجعه.
—كريم سجادبور
إسرائيل
قبل الاجتماع الذي دام ثلاث ساعات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، على نحو مفاجئ، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو في 5 آذار/مارس، اعتُقِد أن سبب التردّد الإسرائيلي في إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، وذِكر بوتين بالاسم، هو رغبة إسرائيل في تجنّب إثارة امتعاض بوتين في سورية، فضلًا عن قلقها على أمن 150,000 يهودي في روسيا ورفاههم. لقد سعت إسرائيل، منذ بدء الأزمة تقريبًا، إلى التحوّط في رهاناتها. فقد صدّت الطلبات الأوكرانية المتكرّرة للحصول على أسلحة، ورفضت التصويت دعمًا لقرار مجلس الأمن الدولي بإدانة الغزو (علمًا بأنها شاركت لاحقًا في التصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة)، وامتنعت عن الإدلاء بتصريحات علنية مندِّدة بروسيا. فقد رفض وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد الذي وجّه في البداية انتقادات إلى روسيا، إدانتها بالاسم في أعقاب الهجوم على كييف الذي ألحق أيضًا أضرارًا بنصب المحرقة التذكاري في بابي يار. ولم يصدر عن بينيت أي تنديد بروسيا منذ بدء الغزو. ولكن ردًّا على الضغوط المتزايدة التي مارستها الولايات المتحدة الأسبوع الماضي، ندّدت إسرائيل بروسيا بنبرة أقوى، ووافقت على وقف رحلات الأوليغارشيين الروس المتنقّلين ذهابًا وإيابًا من إسرائيل وإليها.
يبدو واضحًا الآن أن وقوف إسرائيل على الحياد مردّه جزئيًا إلى رغبة بينيت في إبقاء الباب مفتوحًا أمام بلاده لأداء دور الوساطة في الأزمة، ولا سيما أن زيلينسكي وبوتين اجتمعا به مرات عدة. ولكن إذا كان بوتين مهتمًا بالتوصل إلى اتفاق، فمن المستبعد جدًّا أن يسمح للمسؤولين الإسرائيليين بالتوسط لبلوغه، بل يفضّل بدلًا من ذلك انتزاع تنازلات من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو). وعلاوةً على ذلك، يجب على بينيت أن يحذر من التحوّل إلى بيدق في لعبة الأكاذيب والافتراءات التي يمارسها بوتين. ولكن غالب الظن أن إسرائيل ستبقى لديها مصلحة في أداء دور الوسيط في الانقسام القائم بين بوتين والغرب. فسورية لا تزال موضع اهتمام أساسيًا لإسرائيل، وتؤدّي روسيا دورًا محوريًا في منحها هامشًا واسعًا للتحرك ضد الأصول المملوكة من إيران وحزب الله هناك.
ولكن مع مرور الوقت، قد تواجه إسرائيل صعوبة أكبر في الحفاظ على التوازن الدقيق الذي تعمل على إرسائه في تعاطيها مع الأزمة الأوكرانية. وكذلك، يعمد الكثير من شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، مثل الإمارات والسعودية، إلى التحوّط ويتخوّفون من إثارة حفيظة بوتين. لكن هذه البلدان ليست ديمقراطية، وليس تاريخها مطبوعًا بالاضطهاد الذي يربط دولة إسرائيل والشعب اليهودي بماضي أوروبا الدموي. وقد تُضطر إسرائيل، باعتبارها حليفة مقرّبة من الولايات المتحدة، إلى حسم خيارها، ولا سيما إذا انزلقت الأمور في أوكرانيا إلى نزاع بين حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة وبين روسيا.
—آرون ديفيد ميلر
ليبيا
في ليبيا، ستحمل الأزمة الأوكرانية تأثيرات جيواستراتيجية وسياسية وإنسانية مترامية الأطراف، ويتزامن ذلك مع لحظة مشحونة جدًّا تشهدها البلاد في مرحلة ما بعد الثورة.
خلال الحرب الأهلية في فترة 2019-2020، تدخّل المرتزقة الروس من مجموعة فاغنر المرتبطة بالكرملين، إضافةً إلى عسكريين نظاميين، لصالح قائد الميليشيا خليفة حفتر الذي يتّخذ من شرق البلاد مقرًا له. وانتهت الحرب بتمركز آلاف المقاتلين الروس، إضافةً إلى طائرات حربية متطورة ومعدّات عسكرية أخرى، في مواقع راسخة حول حقول النفط وفي قواعد جوية في مختلف أرجاء البلاد.
وفي خضم النزاع الأوكراني، لم تنسحب القوات الروسية – التي يقابلها مئات المستشارين الأتراك وآلاف المرتزقة السوريين المدعومين من تركيا في غرب ليبيا – بأعداد كبيرة من البلاد. واقع الحال هو أنها تؤمّن الآن لروسيا نفوذًا استراتيجيًا عند الخاصرة الجنوبية لحلف الناتو، وكذلك القدرة على إبقاء الإنتاج النفطي في دائرة الخطر. هذا فضلًا عن أن وجودها في الأراضي الليبية منح موسكو نقطة انطلاق تستخدمها لممارسة نفوذها المسبِّب للاضطرابات في بلدان الساحل جنوبًا. ولكن فيما تستمر روسيا في تكبّد مزيدٍ من الخسائر في أوكرانيا، غالب الظن أنها ستُضطر إلى نقل عناصر مجموعة فاغنر ومعداتها العسكرية من ليبيا إلى الجبهة الأوكرانية.
كان التنسيق الروسي-التركي في ليبيا من العوامل التي حالت دون اندلاع جولة أخرى من الاقتتال بين الفصائل الليبية في مختلف أنحاء البلاد. ويُرجَّح أن يستمر هذا التنسيق في المدى القصير، لأن لدى موسكو وأنقرة على السواء مصلحة في استخدام المناورات الدبلوماسية لتحقيق أهدافهما الاقتصادية والسياسية في ليبيا. وتُبدي تركيا، على الرغم من دعمها العسكري لأوكرانيا، حذرها من فتح مجالات إضافية للمواجهة مع روسيا، وقد اتّخذت لنفسها موقع الوسيط مؤخرًا. لكن في المدى الطويل، قد يواجه قرار ضبط النفس امتحانًا صعبًا في ليبيا، ولا سيما إذا قرّرت روسيا التصعيد، أو في حال أظهرت تركيا تشدّدًا أكبر بسبب استعادة الناتو زخمه، أو إذا لجأت المعسكرات الليبية المتنافسة إلى القوة العسكرية. وقد تعاظم هذا الخطر الأخير بسبب المواجهة في طرابلس بين مرشّحَين يتنافسان على منصب رئاسة الوزراء، علمًا بأن المناورة وإبرام الصفقات يطغيان الآن على المشهد.
أبعد من هذه التأثيرات الاستراتيجية، سوف تؤدّي الحرب الأوكرانية المستمرة إلى تفاقم المشقّات الاقتصادية التي يعاني منها المواطنون الليبيون. ويتّضح ذلك بصورة خاصة في تزايد انعدام الأمن الغذائي: تستورد ليبيا نحو 75 في المئة من احتياجاتها من القمح من أوكرانيا أو روسيا، ونظرًا إلى محدودية احتياطياتها من القمح، سوف تُضطر إلى سداد مبلغ إضافي لتضمن حصةً لها من مصادر استيراد بديلة مثل البرازيل والأرجنتين. وتترتب عن ذلك زيادة في أسعار الخبز قد تؤدّي إلى ضغوط شعبية إضافية على حكومة طرابلس التي تفتقر أصلًا إلى الفعالية.
وعلى مستوى الطاقة، أشارت التوقعات الأولية إلى زيادة الطلب على النفط الخام الليبي بسبب الحرب في أوكرانيا، ولكنها اصطدمت بالتباطؤ المتوقع في النمو الاقتصادي العالمي، وكذلك باستخدام تدفقات النفط سلاحًا في أيدي الفصائل الليبية تُشهره على نحوٍ دوري، مثلما حدث مؤخرًا حين أقدمت مجموعة مسلّحة على إغلاق حقلَين نفطيين رئيسَين لفترة وجيزة.
—فريدريك ويري
فلسطين
كانت ردود الفعل الفلسطينية على الأحداث التي تلت الغزو الروسي لأوكرانيا متضاربة.
لا شك في أن الفلسطينيين اختبروا شعورًا بالتضامن مع الأوكرانيين. فالفلسطينيون في غزة على وجه الخصوص يدركون تمامًا فظاعة مشاهدة جيشٍ محتل يحوّل مبانٍ سكنية إلى ركام، أو معنى الحرمان من الماء والكهرباء والبنى التحتية للاتصالات كشكلٍ من أشكال العقاب الجماعي. ومعظم الفلسطينيين إما يعيشون كلاجئين منذ سبعة عقود وإما اختبروا نزوحًا قسريًا متكررًا وتكبّدوا معاناة الهروب من منازلهم بصحبة أولادهم، من دون أن يعلموا متى سيعودون أو ما إذا كانوا سيعودون فعلًا.
صحيحٌ أن الفلسطينيين تماهوا بصورة طبيعية مع الأوكرانيين، إلا أنهم استغربوا السرعة والوضوح اللذين أبداهما المجتمع الدولي في ردّه على الهجوم الروسي، سواءً في التأكيد على أن المقاومة الأوكرانية بمختلف أشكالها هي مشروعة وبطولية، أو في الإقرار بأن المجتمع الدولي يتحمّل مسؤولية اتخاذ إجراءات مضادّة. في الواقع، لقد أبدت الولايات المتحدة معارضة شديدة لحملات المقاطعة التي قادها المجتمع المدني دعمًا لحقوق الفلسطينيين، وكذلك للمبادرات الدبلوماسية والقانونية في الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
وقد تجلّى غياب التماسك في السياسة الأميركية مؤخرًا في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، حين دعا وزير الخارجية الأميركي أننوني بلينكن المجلس إلى ترك إسرائيل وشأنها فيما طالب بمحاسبة روسيا. وبعد بضعة أيام فقط من بدء الغزو الروسي، فرضت الولايات المتحدة قيودًا على صادرات مصافي النفط الروسية، وأغلقت مجالها الجوي أمام شركات الطيران الروسية، ووضعت خططًا للاستيلاء على أصول الأوليغارشيين الروس، ودعمت تحرّك المحكمة الجنائية الدولية ضد المسؤولين الروس. ويريد بعض أعضاء الكونغرس أيضًا سحب التأشيرات من الطلاب الروس. مع ذلك، تستمر إدارة الرئيس جو بايدن في استيراد السلع التي تُنتَج في المستعمرات الإسرائيلية غير الشرعية – وهي ممارسة تندرج فعليًا في إطار التهريب – لا بل تستوردها من دون سداد رسوم جمركية، وتوضَع على هذه المنتجات علامة "صُنع في إسرائيل". وتمنح الولايات المتحدة أيضًا إعفاءات ضريبية للمنظمات غير الحكومية التي تدعم المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، فضلًا عن أنها تضغط، بحسب التقارير، على الفلسطينيين للتراجع عن مساعيهم الهادفة إلى الدفع باتجاه محاكمة الإسرائيليين المشتبه بهم في ارتكاب جرائم حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية. وإضافةً إلى معارضة إدارة بايدن حركات مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها،تبنّت أيضًا تعريفًا لمعاداة السامية ينظر إلى انتقاد سياسات الاحتلال الإسرائيلي على أنه شكل من أشكال خطاب الكراهية.
وقدتنبّهت روسيا إلى تسييس المحاسبة والمعاملة الاستثنائية لإسرائيل، حتى فيما تمعن هذه الأخيرة في ممارسة الفصل العنصري. ويُرجَّح أن يطرح ذلك تحديًا أمام الجهود التي تبذلها إدارة بايدن كي تفرض من جديد احترام النظام الدولي القائم على القواعد، والإطار المعياري الذي بُني عليه هذا النظام.
—زها حسن
السعودية
لا تريد السعودية خسارة شريكتها موسكو لصالح أصدقائها في واشنطن. فمنذ انطلاق الحرب الروسية الراهنة في أوكرانيا، تسعى السعودية إلى ما هو أكثر من تنويع رهاناتها السياسية من أجل إرسال رسالة إلى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وتدرك ثمن الانحياز لأحد الجانبين في هذا النزاع. على الرغم من أن المملكة اتخذت قرارها بتنويع شركائها الدوليين في مرحلة التشنجات مع الولايات المتحدة بعد غزو العراق، تحوّل هذا القرار إلى سياسة راسخة تتعلق بالغرب وروسيا على السواء.
على سبيل المثال، قام فلاديمير بوتين في العام 2007 بزيارة رسمية هي الأولى من نوعها لمسؤول روسي إلى السعودية. وبعد عشرة أعوام، أصبح الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود أول عاهل سعودي يتوجّه إلى روسيا في زيارة رسمية تبعتها زيارات واجتماعات ثنائية تولاّها نجله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وحين زار بوتين المملكة للمرة الثانية في العام 2019، كانت العلاقات بين البلدَين تتقدّم ببطء إنما بخطى ثابتة. واللافت هو أن الزيارة حدثت في وقتٍ كانت العلاقات السعودية مع الغرب تمرّ بمرحلة من التشنّج الشديد على خلفية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي. وفي العام 2021، وقّعت الدولتان اتفاقًا للتعاون العسكري.
لكن التقدّم في العلاقات السعودية-الروسية بقي دائمًا في الظل، تحجبه علاقة المملكة مع الولايات المتحدة، بحسب ما تبيّن من مصير الخطة التي وضعتها السعودية في العام 2017 لشراء نظم دفاعية روسية لم تُنجَز حتى الآن. تتشارك السعودية مصالح حيوية فريدة مع الولايات المتحدة، ولكن منظومة القيم السياسية السعودية أقرب إلى المنظومة الروسية، على الرغم من أن العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية بين البلدَين هي أقل كثافة وأبطأ وتيرة بكثير مقارنةً بالعلاقات بين السعودية والولايات المتحدة. فردود فعل واشنطن على السياسات السعودية خلال العامَين المنصرمَين، إضافةً إلى التأطير الحالي لهوية الحرب الروسية على أوكرانيا من خلال وصفها بأنها "معركة بين القوى الديمقراطية والسلطوية"، تضع المملكة في المعسكر نفسه مع روسيا.
أبعد من مسألة الانسجام بين زعيمَين سلطويَّين قويَّين يفكّران بالطريقة نفسها في الرياض وموسكو، لدى الدولتَين مصالح وطنية سيادية متجانسة، ومواقف متطابقة قليلة إنما مهمة في السياسة الخارجية، كما في اليمن. ويُعتبر من أهم هذه المصالح اتفاق "أوبك بلس" الذي تقوده الحكومتان، والذي تترتّب عنه نتيجتان مهمّتان للسعودية: فهو يعزّز أولًا التعافي من التداعيات الاقتصادية لوباء كوفيد-19، ويشكّل ثانيًا الورقة الأبرز في يد السعودية في علاقتها غير المريحة مع بايدن.
بينما تواجه السعودية مشكلات على مستوى الثقة في علاقتها مع الولايات المتحدة، لا يمكنها كذلك أن تعوّل على موسكو بصورة كاملة. لقد أثبت بوتين فعلًا أنه حليف يُعتدّ به لأصدقائه السلطويين، مثل الرئيس السوري بشار الأسد، في حين أن الولايات المتحدة سمحت بسقوط الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، وشاه إيران قبله. لكن بوتين ليس مستعدًا للتضحية بعلاقة بلاده مع إيران، العدو الألدّ للسعودية، وقد أثبت أنه لن يتوانى عن الضغط على السعودية في سوق النفط. لذا، في حال اضطُرّت السعودية إلى حسم قرارها، ستفضّل، كما فعلت دائمًا، الولايات المتحدة على روسيا، لكن الرياض تبذل كل ما في وسعها كي تتوقف واشنطن عن اعتبار هذا الأمر من المسلّمات.
—ياسمين فاروق
سورية
تسدّد الحرب في أوكرانيا ضربة قوية إلى العلاقات بين روسيا والغرب، والتي لن تعود إلى سابق عهدها. ولكن تأثيرها على سورية سيكون محدودًا جدًّا على الصعيدَين الجيوستراتيجي والأمني. مع ذلك، بات أكيدًا الآن أكثر من السابق أن الوجود الروسي في سورية ليس مجرّد مصلحة استراتيجية لموسكو بل هو ضرورة وجودية.
يجب النظر إلى الوجود العسكري الروسي في غرب سورية في سياقَين اثنَين: الأول هو سياق الحرب السورية وأبعادها الإقليمية، والثاني هو موقع سورية المطل على شرق البحر المتوسط.
في سورية، أدّى الكرملين دور الوسيط والمفاوض على السواء في الأعوام الأخيرة. فقد ساهمت روسيا في تيسير العملية السياسية التي أُطلِقت برعاية الأمم المتحدة، والدافع وراء أداء موسكو هذا الدور كان إقناع نظام الرئيس السوري بشار الأسد بالانخراط في محادثات مع المعارضة. وفي الوقت نفسه، ضغط المسؤولون الروس لاعتماد إطار جديد من أجل التوصل إلى تسوية أمنية بين أنقرة ودمشق عند الحدود التركية-السورية. هذان المساران، السياسي والأمني، متوقّفان الآن، وقد دخل النزاع السوري مرحلة من الجمود.
في غضون ذلك، يكتسي الوجود العسكري الروسي في قاعدة حميميم الجوية المطلة على البحر المتوسط في سورية منذ العام 2015، طابعًا استراتيجيًا جدًّا. فإضافةً إلى أن القاعدة تشغل موقعًا يطلّ على مشاريع التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، تتيح أيضًا لروسيا ممارسة نفوذ خارج الجمهوريات السوفياتية السابقة، ما يشكّل خرقًا في عزلة روسيا عن المجتمع الدولي. وتقع هذه المنطقة أيضًا في قلب الشرق الأوسط، وهي على احتكاك مباشر بالبلدان الإقليمية، منها دول الخليج العربية ومصر وإسرائيل وتركيا.
في ضوء العملية السياسية في سورية والقاعدة العسكرية الروسية، باتت لموسكو أهمية كبرى لا يمكن تجاهلها في الشرق الأوسط. يتدخّل الكرملين بصورة متزايدة في المنطقة من خلال حماية نظام الأسد وتحالفاته الإقليمية، وستُفرز مختلف هذه العوامل تداعيات عميقة في المدى الطويل. لكن في الوقت نفسه، لهذا التدخل ثمنه. فالمنطقة تقف على أعتاب تحوّل مهم في منظومتها السياسية، ما يولّد أجواء أمنية غير مستقرة ستلقي بضغوط إضافية على الكرملين وتُرغمه على زيادة انخراطه على المستوى المحلي.
—خضر خضّور
تونس
شعرت تونس بتأثير الحرب الروسية في أوكرانيا على المستويَين الاقتصادي والدبلوماسي بصورة أساسية. تحصل تونس، التي يتعرّض اقتصادها أصلًا لضغوط هائلة، على نحو 80 في المئة من حاجاتها من القمح من أوكرانيا. ونتيجةً للنزاع، تسجّل أسعار القمح في البلاد أعلى معدلاتها منذ أربعة عشر عامًا، لذا تواجه الأُسر التونسية صعوبة أكبر في الحصول على الخبز وغيره من السلع الأساسية. ويشعر التونسيون أيضًا بالتبعات القاسية لارتفاع أسعار النفط عالميًا. فالحكومة التونسية التي تدعم المحروقات، وضعت موازنتها على أساس أن سعر برميل النفط يبلغ 75 دولارًا. لكن مع ارتفاع سعر البرميل إلى نحو 100 دولار، اضطُرَّت الحكومة إلى زيادة أسعار المحروقات مرّتَين في شهر شباط/فبراير في محاولةٍ لكبح العجز الكبير في موازنة البلاد.
تجري تونس مفاوضات مع صندوق النقد الدولي بهدف التوصل إلى اتفاق من شأنه المساعدة في معالجة المسائل المذكورة ومجموعة كبيرة أخرى من التحديات الاقتصادية التي تواجهها، مثل الارتفاع الشديد في نسبة البطالة. لكن سيطرة الرئيس قيس سعيّد على السلطة في 25 تموز/يوليو 2021، وما أعقبها من انزلاق البلاد نحو السلطوية، تسبّبت بتوتير علاقات تونس مع الجهات المانحة الغربية، ما يسهم في تعقيد المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. وعلاوةً على ذلك، تدهورت علاقة سعيّد بالغرب بسبب موقف بلاده الدبلوماسي من الغزو الروسي. فتونس تحاول، أسوةً بعدد كبير من جيرانها العرب، السير على خيط رفيع بين الحفاظ على علاقة جيدة مع روسيا التي تعوّل عليها كثيرًا في السياحة والتجارة، وبين تجنّب إغضاب الولايات المتحدة وأوروبا اللتين سيكون لدعمهما المالي والدبلوماسي دور حاسم في تعافي الاقتصاد التونسي.
على الجبهة الدبلوماسية، أثارت تونس سخط الغرب بامتناعها عن إبداء معارضة شديدة اللهجة للغزو الروسي لأوكرانيا. في 28 شباط/فبراير، انتقد سفير الاتحاد الأوروبي لدى تونس محاولتها الوقوف على الحياد، مشيرًا إلى أن "البقاء على الحياد بين المعتدي والضحية هو موقف بحد ذاته". وقد صوّتت تونس تأييدًا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا في 2 آذار/مارس. لكن لدى استقبال الرئيس الروسي الجديد في تونس بعد بضعة أيام، شدّد وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي على أهمية العلاقات الثنائية بين البلدَين، وعلى رغبة بلاده في توطيد تلك العلاقات، فكان ترحيبًا ودّيًا على عكس ما يريده الغرب في التعاطي مع روسيا.
يجب على حكومة سعيّد التفكير برويّة في الثمن الذي تبدي استعدادًا لتكبّده مقابل التودّد إلى روسيا في مواجهة معارضة غربية موحّدة وقوية. ففي هذه المرحلة الحساسة، قد يترتّب عن تردّد تونس في حسم موقفها من روسيا ثمنٌ باهظ لا تستطيع البلاد تحمّله.
—سارة يركس
تركيا
في ظل استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا، باتت إحدى السمات الأساسية في استراتيجية موسكو واضحة للعيان، وتتمثّل في السيطرة على الخط الساحلي للبحر الأسود. في هذه الحالة، ستصبح أوكرانيا من دون منافذ إلى البحر، وسوف يتأمّن خطٌّ يصل بين روسيا ومنطقة ترانسنيستريا المنفصلة في مولدوفا، حيث تتواجد القوات الروسية، وفي نهاية المطاف، سوف يميل الميزان العسكري أكثر لصالح روسيا في البحر الأسود.
كانت روسيا قد عمدت، قبل غزو أوكرانيا، إلى تعزيز سلاحها البحري في البحر الأسود، ونشرت، بعد ضم القرم في العام 2014 ما يُسمّى بقدرات منع الولوج والمناطق المحرّمة (A2/AD) وأنظمة صاروخية هناك، فحققت تفوقًا كبيرًا في الميدانَين البحري والجوي. والآن تسعى إلى زيادة هيمنتها.
ينبغي على تركيا، باعتبارها حليفة للناتو في المنطقة، توخّي الحذر في هذا الصدد. فالتاريخ شاهدٌ على المواجهات العسكرية بين روسيا الإمبريالية والأمبراطورية العثمانية. وهذا ما أشار إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء الإعلان عن قراره غزو أوكرانيا، حين تطرّق إلى إلحاق روسيا الهزيمة بالعثمانيين والسيطرة على الأراضي المحيطة بالبحر الأسود.
وفي العام 2016، اشتكى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من تحوّل البحر الأسود إلى "بحيرة روسية"، مشيرًا إلى الوجود غير الكافي الناتو في المنطقة. لكن العلاقات التركية مع روسيا توطّدت إلى حدٍّ كبير منذ ذلك الوقت، وتفضّل أنقرة الآن التزام الصمت في هذه المسألة.
لكن الغزو الروسي تسبّب بعرقلة الخطط التي وضعتها تركيا لتوسيع نطاق انخراطها مع أوكرانيا، بما في ذلك في القطاع الدفاعي. يعاني الاقتصاد التركي من أزمة، وستواجه تركيا على الأرجح نتائج خطيرة في حال نشوب عداء مع روسيا بسبب اعتمادها على الطاقة الروسية، والأهم بسبب قدرة موسكو على استغلال نفوذها في سورية، ما يؤدّي إلى عرقلة أنقرة. مع ذلك، تمسّكت تركيا بموقفها ووصفت الغزو الروسي بأنه عمل حربي، ورفضت الحجج التي استندت إليها روسيا لتبرير الغزو، وحتى إنها أغلقت المضائق التركية أمام السفن البحرية. ولكنها حرصت على النأي بنفسها عن العقوبات كي لا تحرق الجسور مع موسكو. هذا السلوك مفهوم، ولكنه لا يعني انتفاء حاجة تركيا إلى وضع استراتيجية لمواجهة اتساع رقعة النفوذ الروسي في البحر الأسود. ويمكنها تحقيق هذا الأمر من دون اللجوء إلى التصعيد، وذلك باستخدام طرق ثلاثة هي:
1. اتخاذ إجراءات صارمة لتنفيذ قرار إغلاق المضائق. سوف تمتحن روسيا العزيمة التركية، ويجب على أنقرة التمسّك بقرارها طالما أن حالة الحرب مستمرة. وقد يكون مفيدًا لتركيا أن تدقّق جيّدًا في المحاولات الروسية لخرق أحكام اتفاقية مونترو المتعلقة بعبور الغواصات.
2. تعزيز الجهود الرامية إلى جمع البيانات وتشاركها مع الحلفاء. فقد ازدادت أهمية الإلمام بالأوضاع البحرية والجوية في البحر الأسود.
3. التعويض عن النواقص في قدرات الناتو. تستطيع تركيا المساعدة في سد الفجوات التي تعاني منها قوات الناتو البحرية المنتشرة بصورة دائمة في البحر الأسود حيث تقوم بدوريات، وفي دعم عمليات انتشار الناتو في المستقبل عملًا باتفاقية مونترو.
—ألبير كوسكون
التداعيات الإقليمية
يؤثّر الغزو الروسي لأوكرانيا على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ثلاثة ميادين أساسية هي: المفاوضات السياسية والعمل العسكري، والمساعدات الإنسانية والأمن الغذائي، وإمدادات النفط والغاز.
على المستوى السياسي، لم تدفع الأزمة حتى الآن نحو تبدلات واسعة في الاصطفافات. لا بل إن بلدانًا عدة، منها دول الخليج وإسرائيل، تتحوّط في رهاناتها بين الولايات المتحدة وروسيا، وتسعى إلى زيادة مكاسبها إلى أقصى حد في مجالات اهتمامها الأساسية. لكن العقوبات الطويلة الأمد على روسيا ستطرح تحديات على بلدان الشرق الأوسط، مثل مصر والسعودية والإمارات التي تعمد جميعها إلى تنويع صناعاتها الدفاعية وتسعى إلى تعزيز تعاونها مع روسيا.
يُرجَّح أن تُلقي التداعيات بظلالها على سورية وليبيا، حيث يشكّل التعاون الأميركي-الروسي حاجة ماسّة لتحقيق نتائج سياسية مستدامة. وقد باتت احتمالات هذا التعاون الأميركي-الروسي الآن أقل من أي وقت مضى. فالوجود العسكري الروسي الكبير في البلدَين، وتزايد عزلة موسكو السياسية والاقتصادية قد يدفعانها إلى ممارسة دور المعرقل للجهود الجارية حاليًا لمعالجة الانقسامات السياسية في ليبيا، وحتى إنها قد تقدّم دعمًا أكبر للنظامَين السوري والإيراني مقارنةً مع المرحلة السابقة. أما أوروبا، فهي قلقة من الوجود العسكري الروسي الكبير عند خاصرتها الجنوبية في ليبيا. وفي غضون ذلك، تتخوف تركيا وإسرائيل من احتمال إقدام روسيا على تحرك ما في سورية في المستقبل. فتركيا قلقة من إمكانية قيام روسيا بزيادة الضغوط في معقل الثوّار في إدلب، ما يؤدّي إلى موجة لجوء واسعة إلى أراضيها. ويخشى السكان الأكراد في سورية أن يدفعوا ثمن مقايضة أميركية-تركية في هذا الصراع الجيوسياسي الأوسع. وتتخوف إسرائيل من تنامي التعاون الروسي-الإيراني ومن إمكانية فرض قيود على قصفها الجوي لأهداف إيرانية في سورية.
تزداد المخاوف أيضًا بشأن المساعدات الإنسانية والأمن الغذائي في المنطقة، ولا سيما في البلدان التي تعاني أصلًا أوضاعًا هشة. فالأعداد المتزايدة من اللاجئين الأوكرانيين والارتفاع المستمر في تكاليف إعادة الإعمار بعد النزاع يثيران بعض المخاوف من احتمال وقف المساعدات الإنسانية الأساسية إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بهدف تحويلها لمعالجة تداعيات النزاع الأوكراني. فسيكون ذلك أشبه بقطع شريان الحياة الأساسي لملايين الفلسطينيين واللبنانيين واليمنيين والسوريين وسواهم ممّن يعيشون في بلدان تشهد نزاعات، وانهيارات اقتصادية كارثية، وحاجات متزايدة على الصعيد الإنساني. وتتفاقم حدّة هذه الأزمة أيضًا بفعل المخاوف الجدّية المتعلقة بالأمن الغذائي، ولا سيما في بلدان مثل لبنان ومصر اللذين يعتمدان على روسيا وأوكرانيا للحصول على حاجاتهما من القمح (أي 96 و85 في المئة من إمداداتهما من القمح على التوالي). وغالب الظن أن هذه الأزمة ستشتد مع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية ومصادر الطاقة عالميًا. ومع مرور الوقت، قد يدفع ذلك بالمواطنين للخروج مجدّدًا إلى الشارع احتجاجًا على الأوضاع الصعبة.
يُعدّ مستقبل إمدادات الغاز والنفط مسألة بالغة الأهمية. ستسعى أوروبا على الأرجح إلى تأمين الغاز من مصادر بديلة، ما يشكّل فرصة سانحة لبلدان الخليج وشرق المتوسط. تستفيد بلدان الخليج راهنًا من الزيادة في أسعار النفط، وتستغل هذا الوضع لإعادة التفاوض بشأن علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة والسعي لتحقيق مكاسب سياسية في أماكن مثل اليمن. والسؤال المطروح هو التالي: هل سيدفع ذلك ببلدان شرق المتوسط إلى التعجيل في إقرار بعض الاتفاقات بشأن إمدادات الغاز الواعدة، على أمل أن تصبح شريكة أساسية لأوروبا في المستقبل؟
ثمة أمور كثيرة لم تتضح معالمها بعد في هذا النزاع الذي كشف مساره عن تحوّل طويل الأمد في العلاقات العالمية. فما هي الخطوات التي سيُقدِم عليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المستقبل، إذا شعر بأنه منبوذ ومعزول أكثر على الساحة الدولية، وهل سيحاول استخدام أوراق ضغط مختلفة في المنطقة لتحقيق مبتغاه في أماكن أخرى؟
—مهى يحيَ
التداعيات الجيوسياسية
تسبّب الغزو الروسي لأوكرانيا وما أعقبه من حظر على المنتجات الروسية – بما يشمل حظر الصادرات النفطية الروسية – بارتفاع في أسعار النفط التي استعادت المستويات التي كانت عليها قبل آب/أغسطس 2014، مع تخطّي سعر البرميل 100 دولار أميركي. وفيما تعثّرت أيضًا القدرات الإنتاجية للجهات الأخرى المنتجة للنفط لأسباب مختلفة، قد تحافظ أسعار النفط على ارتفاعها لبعض الوقت. ولعل أهمية هذا التطور تبرز بصورة خاصة على المستوى الجيوسياسي بالنسبة إلى بلدان الشرق الأوسط.
في الأعوام الأخيرة، اضطُرَّت البلدان المنتجة للنفط في المنطقة، وعلى رأسها السعودية، إلى اعتماد تدابير لطالما كانت حاجة إليها من أجل تحقيق إصلاحات اقتصادية تتيح لها الابتعاد عن الاقتصادات الريعية ونموذج دولة الرعاية الاجتماعية. وهكذا فإن السؤال المطروح هو إذا كانت الاحتياطيات المالية التي راكمتها تلك الدول حديثًا سوف تؤدّي إلى إعادة عقارب الإصلاح الاقتصادي إلى الوراء سعيًا وراء مكاسب سياسية قصيرة الأجل، أم أنها ستتعلم الدرس وتدرك أن الإصلاح الاقتصادي ضرورة، بغض النظر عن أسعار النفط.
وسوف يكون التأثير شديدًا أيضًا على البلدان المستوردة للنفط. ففي حين أن أسعار النفط المرتفعة ستزيد من المخاطر المُحدقة بالبلدان التي تعاني أصلًا من ظروف اقتصادية صعبة، أمكنَ في السابق التخفيف من حدّة بعض هذه التحديات من خلال الحصول على قروض من البلدان المنتجة للنفط. ليس واضحًا الآن إذا كانت هذه القروض ستُستأنَف بعد التحولات في التحالفات السياسية، ما يُعرِّض بعض البلدان المستوردة للنفط مثل الأردن لخطر اقتصادي متزايد.
لقد أبدت معظم البلدان العربية، في موقفها الرسمي في الأمم المتحدة، إدانتها للغزو الروسي، لكن ردود الفعل العامة كانت متفاوتة. فقد تساءل البعض، على نحو مبرَّر، لماذا لم تصدر ردود فعل دولية شاجِبة بالحدّة نفسها للاحتلال الإسرائيلي المفروض على الفلسطينيين أو للغزو الأميركي للعراق. وأثارت بعض التعليقات في الغرب، من قبيل أن اللاجئين الأوكرانيين "يشبهوننا" وغيرها، اتهامات مبرَّرة أيضًا للغرب بممارسة العنصرية. ردود الفعل هذه في الشرق الأوسط مفهومة، لكنها تجاهلت حتى الآن أن الانتقائية في إدانة اللجوء إلى القوة لاحتلال دول أخرى هو طريق من اتجاهَين: فقد تستخدم إسرائيل، مثلًا، هذا التفاوت في الرأي لتبرير احتلالها للأراضي العربية. ويتجاهل رد الفعل هذا أيضًا محنة الأوكرانيين الذين يعانون من الحرب والاحتلال.
إذًا، حاولت معظم بلدان المنطقة، ومنها إسرائيل، التزام الحذر، وكان رد فعلها على الغزو خافتًا. لكن، مع استمرار الحرب وتداعياتها، سيصبح من الأصعب الحفاظ على هذا الموقف.
—مروان المعشّر