المصدر: Getty

الحرب في السودان

تراجعت الآمال في التوصل إلى سلام دائم في أعقاب استقلال جنوب السودان العام الماضي، بعد أن انخرط السودان وجنوب السودان بالفعل في أعمال حربية. كلا الجانبين في حاجة إلى الصراع مع الآخر في نواح كثيرة، بوصفه تكتيكاً يهدف إلى تشتيت الانتباه عن مشاكلهما الداخلية، ولذا لا يحرص أي منهما على التوصّل إلى تسوية.

نشرت في ٩ مايو ٢٠١٢
تراجعت الآمال في التوصل إلى سلام دائم في أعقاب استقلال جنوب السودان العام الماضي، بعد أن انخرط السودان وجنوب السودان بالفعل في أعمال حربية.  في سؤال وجواب جديد، تحلّل مارينا أوتاوي التوتّرات في السودان والتحدّيات التي تواجهها هاتان الدولتان . 

لماذا يبدو السودان وجنوب السودان على حافّة حرب شاملة؟

 
هذا هو الفشل الأخير للجهود الدولية الرامية إلى إيجاد حلّ لمشكلة السودان.
 كانت هناك حرب بين الحكومة السودانية والحركات الجنوبية، مع فترات توقّف مؤقت فقط في أعمال العنف، منذ حصول السودان على استقلاله العام 1956. إنه صراع قديم، لكن الجديد فيه هو أنه  أصبح حرباً بين دولتين وليس حرباً أهلية بعد استقلال جنوب السودان رسمياً. 
في نهاية المطاف، نجح جهد دولي ضخم في إجراء مفاوضات والتوقيع على اتفاق السلام الشامل في العام 2005. عالج هذا الاتفاق في الظاهر جميع جوانب الصراع، بيد أن النقّاد إدَّعوا أنه لم  يُبذل جهد كاف لضمان تنفيذه. لكن، وبغضّ النظر عن ذلك، تكمن المشكلة الحقيقية في أن هناك الآن بلدين مهتمّين بتسجيل نقاط ضد بعضهما البعض أكثر من اهتمامهما بصنع السلام.
 
هذا الأمر اتّضح حالما استقلّ جنوب السودان رسمياً. فقد قبلت حكومة الخرطوم نظريّاً قرار الجنوب باختيار الاستقلال ، الذي تم من خلال استفتاء شعبي وبأغلبيّة ساحقة، لكنها لم تهضم هذا القرار في الواقع. ومنذ ذلك الحين استمرّت الصراعات بلا هوادة.
 
كلا الجانبين في حاجة إلى الصراع مع الآخر في نواح كثيرة، بوصفه تكتيكاً يهدف إلى تشتيت الانتباه عن مشاكلهما الداخلية، ولذا لايحرص أي منهما على التوصّل إلى تسوية. كما يواجه السودان وجنوب السودان تحدّيات داخلية مستعصية من دون توافر حلول سهلة وسريعة لها. 

ما القضايا التي لاتزال في حاجة إلى حلّ بين البلدين؟

ثمّة صراعان رئيسان بين السودان وجنوب السودان يتعلّقان بالنفط والأراضي.
هناك الآن بلدان يشتركان في مصدر رئيس للدخل، بالإضافة إلى خط أنابيب نفط واحد وميناء نفط واحد. يسيطر الجنوب على 75 في المئة من النفط، لكن لايمكنه واقعياً تصدير نفطه إلا عبر خط الأنابيب الذي يمتدّ عبر السودان إلى الميناء الذي تسيطر عليه الخرطوم.
 
نظريا، يمكن للجنوب نقل النفط بواسطة الشاحنات عبر كينيا مستخدماً طرقاً غير معبّدة مع ما يتسبّب به ذلك من اهتراء كبير للسيارات، لكن من الناحية العمليّة الخيار الوحيد هو أن يعتمد على خط أنابيب الخرطوم لأن الأمر سيستغرق سنوات ومبالغ ضخمة من المال لبناء خط أنابيب جديد إلى كينيا.
 
لايمكن للسودان وجنوب السودان أن يتوصّلا إلى اتفاق بشأن رسوم العبور. إذ يقدّر خبراء الصناعة أنه مع وجود خط أنابيب بمثل هذا الطول، يتعيّن على السودان أن يغرِّم جنوب السودان رسم عبور نقل النفط بواقع 2-3 $ للبرميل الواحد لمطابقة الأسعار العالمية الجارية. السودان يطلب 32 دولار للبرميل فيما يعرض الجنوب دفع 0،41 دولار. ولذا، من الواضح أن هناك طريقاً طويلة للخروج من المأزق.
 
بعد أشهر من المفاوضات ومحاولات الوساطة التي قام بها عدد من الدول والمنظمات الدولية، أوقف الجنوب ضخّ النفط الآن. ومن المحتمل أن يؤثّر ذلك على صادرات النفط من السودان أيضاً،  لأن الشمال ربما لايكون قادراً على الاستمرار في تشغيل خط الأنابيب من دون النفط الآتي من الجنوب. وهكذا يتكبّد كلا البلدين خسائر اقتصادية فادحة. لا بل إن الصين تدخّلت (أحد اللاعبين الكبار في الجنوب هي شركة صينية)، لكن ليس ثمة أي مؤشر على حدوث انفراج.
 
الصراع الثاني يتمحور حول المناطق الحدودية.
هناك سكان من غير العرب يعيشون على مقربة من الحدود في الشمال ويتعاطفون مع الجنوب. وقد قاتلت هذه الجماعات جنباً إلى جنب مع الجنوب خلال الحرب، لكن من المفترض أن تظلّ جزءاً من السودان. الخط الفاصل بين الشمال والجنوب قديم رسمه البريطانيون، ولذلك كانت هذه المشكلة متوقّعة.
 
ومايزيد الأمور تعقيداً، أنه لم يتم ترسيم الحدود تماماً. وهذا الأمر ليس مهمّاً فقط بسبب تأثيره على مراعي القبائل المختلفة، بل أيضاً لأنه يشمل المناطق المنتجة للنفط.
طرأ أحدث تصعيد للتوتّر عندما اندفع الجيش الجنوبي عبر الحدود لاحتلال حقول النفط في هجليج، التي تعتبر أهمّ مصدر نفطي متبقّ للشمال. ويدّعي الجنوب أن عمليات القصف التي قامت بها الخرطوم هي التي دفعته إلى التحرُّك، لكنه تراجع منذ ذلك الحين إلى الجانب الذي يخصّه من الحدود. ثمة الكثير من اللوم الذي سيقال في هذا الموضوع.
 
الحقيقة المخيفة هي أنه في مرحلة معيّنة قد يُتلف أي من الجانبين المنشآت النفطية ليغيظ الجانب الآخر.

ما مدى خطر حدوث انهيار اقتصادي وسياسي لكلا البلدين؟

جنوب السودان ليس دولة لأسباب عمليّة. فحتى مع حصوله على الاستقلال يتوفّر جنوب السودان على العديد من الخصائص المميّزة للدولة الفاشلة، أو على الأقلّ تلك التي لم تظهر بعد إلى حيّز الوجود. فالبنى التحتية فيه متواضعة للغاية. وعلى سبيل المثال، لاتوجد طرق معبّدة خارج العاصمة جوبا. المواصلات أمر حيوي لإدارة الدولة.
 
إضافة إلى ذلك، جنوب السودان فيه هياكل قبليّة تعقّد الديناميات السياسية في البلاد، وهو أمر  تستغلّه الخرطوم عادة عن طريق تحريض قبيلة ضد أخرى لإضعاف الجنوب.
 
الوضع الاقتصادي خطير جداً في الجنوب مع أن عائدات النفط والمساعدات الدولية تتدفّق على البلاد. جوبا لاتعاني فعليّاً من مشكلة في التدفّق النقدي، لكن التحدي يتعلّق أكثر بكيفيّة إنفاق الأموال بطريقة تفرز تأثيرات إيجابية.
فضلاً عن ذلك، تدمّر عائدات النفط ماتبقّى من الاقتصاد. فقد ظهرت بالفعل عوارض ما يسمى بـ "المرض الهولندي"، حيث ترفع لعنة الموارد الطبيعية أسعار العملات وتضرّ بالصناعات المحليّة. في السابق كان ينظر إلى الزراعة باعتبارها أمل البلاد، لكنها مهملة تماماً الآن، كما كانت مهملة في الشمال بعد اكتشاف النفط.
 
كل هذا يعني أن الجنوب يعاني من مشكلة مستحيلة في مجال بناء الدولة.
 
يعاني الشمال من مشكلة مستحيلة هو أيضاً، تتمثّل في الحفاظ على تماسك دولته. وهو يواجه صراعات داخلية على جميع الصُّعُد: منازعات في النيل الأزرق وجنوب كردفان في الجنوب، ودارفور في الغرب، كما أن القبائل غير العربية الكبرى التي تتسرّب من إثيوبيا ساخطة في شرق البلاد.
 
وهناك أيضاً الاضطرابات المتزايدة في الريف بسبب مشاريع الخرطوم الطموحة لتوليد الطاقة التي تشرّد الكثير من الأشخاص بسبب توسيع السدود القائمة أو بناء سدود جديدة. والأشخاص الأكثر تضرّراً هم الأقلّ احتمالاً أن يستفيدوا من زيادة قدرات توليد الطاقة. وهناك أيضاً قدر كبير من الاستياء في الخرطوم. فأسعار المواد الغذائية مرتفعة وتواصل الارتفاع، وطلاب الجامعات ومجموعات الشباب قلقون، والقيادة السياسية هرمة. ومن دون وجود أصوات جديدة وشابّة، فإن الأمر يعني ركوداً سياسياً شاملاً.
 
من الواضح أن السودان يواجه مشاكل اقتصادية ضخمة وقد خسر مليارات الدولارات من عائدات النفط، أي ما يقرب من 25 في المئة من إيراداته الإجمالية، عندما انفصل جنوب السودان. ولاتزال البلاد تخضع إلى العقوبات بسبب النزاع في دارفور، ولذا سيكون من شبه المستحيل أن يتمكّن السودان من تعويض العائدات المفقودة.

كيف ينبغي للمجتمع الدولي أن يعمل؟

يتسابق اللاعبون الرئيسيون في المجتمع الدولي في محاولة لإحياء المفاوضات والبحث عن أمل جديد لإيجاد حلّ دائم. لكن هذا قد يكون وضعاً لايمكن للعالم الخارجي فيه سوى تقديم القليل من المساعدة.
 
من خلال الاستمرار في توجيه المساعدات الخارجية والمعونات الغذائية للحكومات، يمكّن المجتمع الدولي كلا الجانبين من تجنّب مواجهة الخيارات الصعبة، والتي تعتبر ضرورية لتحقيق السلام في نهاية المطاف. وفي حين يتعيّن على بقيّة العالم أن يحاول وقف العنف المباشر وعديم الجدوى، فإن الحفاظ على مسافة سياسية من كلا الطرفين، هو الخيار الأقلّ سوءاً المتاح اليوم.
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.