مقدّمة
مهى يحيَ، مديرة مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط.
قالت الصحافية الإسرائيلية أميرة هاس في كتابها المؤثّر الذي يحمل عنوان Drinking the Sea at Gaza (الشرب من بحر غزة): "بالنسبة لي، تختزل غزة كل فصول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتسلّط الضوء على التناقض الجوهري الكامن في إسرائيل، بين من يراها منارةً للديمقراطية، ومن يعتبرها رمزًا للظلم والحرمان؛ غزة هي جرحنا المفتوح". إن الحرب الدائرة في غزة منذ هجمات حماس يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر على بلدات وقواعد عسكرية في جنوب إسرائيل، نَكَأت هذا الجرح المفتوح. وعلى ضوء هذه الهجمات، وشراسة الردّ الإسرائيلي، وفداحة الخسائر البشرية والماديّة، رأينا أسوأ كوابيسنا تتحقّق أمام أعيننا. فقد أسفر الصراع عن مقتل الآلاف من أطفال غزة وألحق دمارًا جسيمًا بالقطاع، وطالت تبعاته مناطق العالم أجمع، إذ شهدت عواصم ومدن عربية وغربية مسيرات ومظاهرات غير مسبوقة منذ سنوات تنديدًا بالحرب.
وأدّى هذا الصراع إلى نشوب حرب سردياتٍ أجّجت التوتّر داخل الكثير من المجتمعات، ولا سيما في الغرب. وساهم النزاع أيضًا في تعميق الهوة الكبيرة التي تفصل بين دول الشطرَين الجنوبي والشمالي من العالم، وزاد من حدّة الانقسامات الداخلية، وفضح ازدواجية المعايير الدولية، وفاقم ظواهر عدّة، مثل صعود تيارات اليمين المتطرّف وتنامي المشاعر المعادية للمهاجرين. من أجل تحليل هذه التأثيرات وغيرها، دعا مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط كوكبةً من الباحثين من شبكة كارنيغي العالمية إلى الإجابة عن سؤال محدّد حول غزة يرتبط بمجالات اختصاصهم، فخلصنا إلى هذه الباقة الغنيّة بوجهات نظرٍ ثاقبة تؤكّد على أن القضية الفلسطينية التي بدا وكأنها دخلت في طيّ النسيان، قد عادت مجدّدًا إلى واجهة المشهد الدولي وإلى صُلب النقاش السياسي، وأنها لا تزال قادرةً على التأثير في الرأي العام وحشد شعوب ومجتمعات حول العالم.
يُعزى ذلك إلى جملةٍ من الأسباب المعقّدة، أهمّها مشاعر الاستنكار إزاء عمليات القتل الجماعي للمدنيين العُزَّل في غزة. وفيما قوّضت هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر الشعور بالأمن لدى الكثير من الإسرائيليين، يرى مناصرو الشعب الفلسطيني أن الصراع الراهن لا يمكن فصله عن سياقه العام، إذ يرزح الفلسطينيون منذ عقودٍ طويلة تحت وطأة الاحتلال والحرمان من الحقوق، ويعيش سكان غزة تحت الحصار في أكبر سجن مفتوح في العالم، في ظلّ تفاوت شاسع في موازين القوى العسكرية بين الجانبَين الإسرائيلي والفلسطيني، وغياب أي أُفق سياسي لحلّ النزاع. في خضمّ الخسائر المأساوية التي يتكبّدها سكان غزة، وارتفاع حصيلة القتلى إلى أكثر من 15 ألف شخص، نصفهم من الأطفال، سأل مذيعٌ طفلًا فلسطينيًا ماذا يريد أن يكون عندما يكبر، فأجابه الطفل قائلًا: "نحن أطفال غزة لا نكبر". غزة إذًا جرحٌ نازف لن يندمل... لكننا نأمل أن تساعد هذه التحليلات الموجزة في إيضاح أسباب ذلك.
كيف ينظر الاتحاد الأوروبي إلى الحرب في غزة، وكيف يمكنه التعامل مع الصراع؟
روزا بلفور، مديرة مركز كارنيغي أوروبا.
أدّى النزاع في غزة إلى تمزّق أوروبا من نواحٍ عدّة، في ضوء تأجّج المشاعر بسبب الشعور بالذنب التاريخي والظلم، وذلك على امتداد الهويات المتعدّدة للأوروبيين أنفسهم. وقد كشفت الاستجابة الأولى لمؤسسات الاتحاد الأوروبي عن قيادة منقسمة، وبرزت ردود فعل غاضبة على الزيارة التي قامت بها كلٌّ من رئيسة المفوضية الأوروبية ورئيسة البرلمان الأوروبي إلى إسرائيل، والتي اعتُبِرت منحازة وغير منسجمة مع الدبلوماسية التقليدية للاتحاد الأوروبي، التي لطالما اعتمدت نهج التوازن في البيانات تجاه المسائل الفلسطينية والإسرائيلية.
ثم شهد التصويتُ في الجمعية العامة للأمم المتحدة انقسامَ الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بثلاث طرق مختلفة. منذ تسعينيات القرن العشرين، حافظ الاتحاد الأوروبي دائمًا على وحدة ظاهرية في التزامه بحلّ الدولتَين، والعودة إلى حدود العام 1967، وإدانة المستوطنات الإسرائيلية. ولكن خلال الأعوام الأخيرة، توطّدت علاقات بعض البلدان مع إسرائيل، بدافعٍ من التاريخ، وكذلك الروابط الثنائية المتنامية في الاقتصاد والأعمال، ونشأ في بعض الحالات تقارب بين القادة السياسيين المنتمين إلى أقصى اليمين. تكشف الحرب، على ما يبدو، عن تبدّل في التوافق بين الحكومات، ما يجعل من الأصعب على الاتحاد الأوروبي اتّخاذ موقف واضح من الصراع.
لقد أدّى حجم الردّ الانتقامي الإسرائيلي وأعداد الضحايا المدنيين الذين سقطوا من جرّاء الحرب الإسرائيلية على غزة إلى اندلاع احتجاجات واسعة في مختلف أنحاء أوروبا، ما كشف عن انقسام إضافي بين الشعوب والحكومات. وبما أن فرنسا تضم أكبر جاليتَين يهودية ومسلمة في أوروبا، كان على الدبلوماسية الفرنسية أن تُقيم توازنًا بين الأصوات المختلفة. وفيما تختلف الاستجابة للصراع بين بلدٍ وآخر، بدءًا من تضامن ألمانيا التاريخي مع إسرائيل ووصولًا إلى تماهي إيرلندا مع الشعوب الواقعة تحت الاستعمار، تظهر بعض الاتجاهات العامة: فالحكومات تنحاز إلى وجهة النظر الإسرائيلية، فيما يتحوّل الرأي العام، ولا سيما الأجيال الشابة التي تضمّ نسبة كبيرة من الأقلية المسلمة، لصالح القضية الفلسطينية.
في ظل تأجّج المشاعر وتعمّق الانقسامات، يصعب استشفاف الدور الذي يمكن أن يضطلع به الاتحاد الأوروبي، ولكن ثمة بعض المجالات للتحرّك. أولًا، أخذ الممثّل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، جوزيب بوريل، على عاتقه مسؤولية وضع الموقف التقليدي للاتحاد الأوروبي من النزاع موضع التنفيذ، وقام بجولة في الشرق الأوسط للقاء مسؤولين إسرائيليين وفلسطينيين، وكذلك مسؤولين في البلدان المجاورة. لم يكن الاتحاد الأوروبي يومًا في موقع يخوّله التأثير في عملية التوصل إلى حلٍّ سياسي للنزاع، ولكن بإمكانه تيسير البُعد الإقليمي للحوار الدبلوماسي. ويمكن أن ينطوي ذلك على دعم الجهود الرامية إلى منع حدوث تصعيد والانزلاق إلى مواجهة إقليمية.
المجال الآخر حيث يمكن لأوروبا ككُل أن تضطلع بدور مفيد هو التحضير لمرحلة ما بعد الصراع. لم يُبدِ الاتحاد الأوروبي ودوله رغبة في الاستفادة من علاقاته الاقتصادية مع إسرائيل التي نمت إلى حدٍّ كبير في الأعوام الأخيرة، ولكنه يبقى الجهة المانحة الأكبر لفلسطين. ولا شكّ أن أي اتفاق سياسي سيتطلّب استثمارات طائلة في إعادة الإعمار وفي بناء الأُسس الديمقراطية اللازمة لجعل الحلّ السياسي مستدامًا.
ختامًا، وبناءً على المشاعر التي أجّجتها الحرب على غزة والحِراك التضامني الذي أطلقته في أوروبا، يُمكن الاضطلاع بدور خاص في دعم الانخراط المدني والشبكات غير الحكومية الملتزمة ببناء مستقبل مختلف للمنطقة. هذا لا يمكن أن يكون بديلًا عن الحلّ السياسي الذي طال انتظاره، ولكن في حال التوصل إلى مثل هذا الموقف، يمكن التعويل على تاريخ أوروبا الطويل في ترسيخ أواصر التعايش، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، وحتى المصالحة.
كيف يمكن أن تؤثّر الحرب الدائرة في غزة على أوروبا، ولا سيما على مخاوفها بشأن أوكرانيا؟
جودي ديمبسي، زميلة أولى غير مقيمة في مركز كارنيغي أوروبا، ومديرة تحرير مدوّنة "أوروبا الاستراتيجية".
ليس للاتحاد الأوروبي موقفٌ موحّد تجاه مسائل السياسة الخارجية والأمن، لكن الحرب الروسية على أوكرانيا، التي بدأت في شباط/فبراير 2022، غيّرت ذلك. فالاتحاد الأوروبي يقدّم مساعدة مالية ودعمًا عسكريًا كبيرَين لكييف، ناهيك عن أنه فرض عقوبات على موسكو، وتخلّص من اعتماده على الغاز الروسي. لم يعد الاتحاد الأوروبي، ولا سيما ألمانيا وفرنسا اللتَين كانت تربطهما علاقات وثيقة جدًّا بروسيا، ينظر إلى جيرانه الشرقيين من عدسة الكرملين.
والحال هو أن تصميم أوكرانيا على الدفاع عن استقلالها أحدث تغييرًا في ذهنية معظم الحكومات الأوروبية. يُنظَر إلى الحرب ونتائجها بأنها مرتبطة بأمن أوروبا. وإذا لم تنتصر أوكرانيا في هذه الحرب أو تدخل مفاوضات السلام من موقع قوة، فسوف تكون روسيا في موقع يخوّلها تهديد مولدوفا، وإحكام قبضتها على بيلاروسيا، وزيادة دعمها للحكومة الموالية لها في جورجيا. ومن شأن التيارات المؤيّدة للديمقراطية في هذه البلدان أن تتصدّى للمحاولات التي تبذلها روسيا لاستعادة موطئ قدمها السياسي في الدول المنبثقة في الاتحاد السوفياتي السابق أو ترسيخه. ونظرًا إلى أن هذه السيناريوهات ستؤدّي إلى زعزعة الاستقرار عند الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي، يمكن القول إن الدعم الأوروبي لأوكرانيا هو مسألة مرتبطة بالأمن الأوروبي.
أما الحرب في غزة فتطرح تحدّيًا أمنيًا وسياسيًا مختلفًا تمامًا للأوروبيين. فمصداقيتهم ضئيلة. ولم يستخدموا مطلقًا أدوات القوة الناعمة التي يملكونها، ولا سيما المساعدات المالية، للتأثير على السلطة الفلسطينية التي تتّخذ مقرًّا لها في الضفة الغربية الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي. والأسوأ من ذلك أن الاتحاد الأوروبي قام بتمويل السلطة الفلسطينية على حساب دعم المجتمع المدني المستقل الحقيقي والنشطاء المناصرين للديمقراطية. كذلك، كان دعمه لحلّ الدولتَين غير فعّال. فقد وقف الاتحاد الأوروبي متفرّجًا ومكتوف اليدَين فيما واصلت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو والحكومات السابقة توسيع المستوطنات اليهودية، غير القانونية بموجب القانون الدولي، في الضفة الغربية.
لقد أكّدت الحرب الدائرة في غزة أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو القضية الأكثر إثارةً للانقسام داخل الاتحاد الأوروبي في مجالَي السياسة الخارجية والشؤون الأمنية. فألمانيا تقدّم دعمًا غير مشروط لإسرائيل، لاعتبارات تتعلّق بماضي البلاد وتاريخها. أما إيرلندا، وهي الدولة الأكثر مناصرةً لفلسطين في الاتحاد الأوروبي، فتدعو إلى وقفٍ لإطلاق النار. وتترتّب عن هذا الانقسام الحادّ في المواقف تداعيات أمنية عدّة على أوروبا. أوّلها يتعلق بأمن المجتمعات المحلية اليهودية، ذلك أن تنامي ظاهرة معاداة السامية مرتبطٌ بالهجوم الإسرائيلي على غزة. وثانيها يتمثّل في تعاظم كراهية الإسلام، نظرًا إلى أن المتظاهرين الموالين لفلسطين يُصنَّفون بأنهم داعمون لحركة حماس ومناهضون لإسرائيل. وثالث هذه التداعيات يرتبط باحتمال وقوع هجمات إرهابية. ورابعها يكمن في إمكانية أن تستغلّ روسيا انقسام أوروبا وانشغالها بما يجري في غزة لزيادة وتيرة هجماتها على أوكرانيا.
يجب على الاتحاد الأوروبي أن يحافظ، لأسباب أمنية، على وحدته في ملف أوكرانيا الواقعة في جواره المباشر. وعليه أن يتقبّل، في الوقت نفسه، أنه ليس له أي تأثير على الحرب في غزة.
كيف يُنظَر إلى حرب غزة في منطقة القوقاز؟
توماس دي فال، زميل أول في مركز كارنيغي أوروبا.
في جنوب القوقاز، يفسّر الجميع النزاعات التي تخوضها شعوب أخرى من خلال إسقاط وضعهم عليها.
فعلى امتداد ثلاثة عقود، دأب الأرمن والأذريون المسكونون، كلٌّ من جهته، بهاجس عرض روايتهم الخاصة عن النزاع المطوّل للعالم الخارجي، على إطلاق تصريحات يشبّهون فيها أنفسهم بالضحايا المتصوَّرين لنزاعات أخرى مثل الصراع في كوسوفو أو أوكرانيا.
في ما يتعلق بإسرائيل وفلسطين، كان الأذريون يشعرون في تسعينيات القرن العشرين بأنهم مشابهون للفلسطينيين: فقد كانوا الضحايا "غير المرئيين" للتهجير الجماعي، الذين حجبت الإبادة الأرمنية التاريخية روايتهم. وقام بعض القادة العسكريين الأرمن، مثل الرئيس السابق روبرت كوتشاريان، بتقليد الخطاب الإسرائيلي، من خلال استخدام لغة النصر والأمن المطلق وترداد عبارة "لن يتكرّر ذلك أبدًا!"
وخلال الأعوام القليلة الماضية، أصبح جنوب القوقاز يحتلّ حيّزًا أكبر ليس فقط في السياسة الأوروبية، بل أيضًا في السياسة الشرق أوسطية، مع زيادة تركيا وإيران وإسرائيل التزاماتها في المنطقة. وقد أنشأت أذربيجان تحالفًا مع إسرائيل يعود بالفائدة على الطرفَين، وبموجبه تؤمّن أذربيجان نحو نصف احتياجات إسرائيل من النفط والغاز، فيما قامت إسرائيل بشحن أسلحة إلى أذربيجان. وفي آذار/مارس 2023، أكّدت أذربيجان من جديد على متانة هذه العلاقة من خلال فتح سفارة لها في إسرائيل.
يتعلق ذلك إلى حدٍّ كبير بإيران التي تربطها بأذربيجان (التي هي شيعية اسميًّا ولكنها علمانية إلى درجة كبيرة في سياستها) علاقة مشبوهة وعدائية. أما أرمينيا وإيران، فتجمعهما علاقة جيّدة وأجندة مشتركة قوامها الحفاظ على خطوط نقل مفتوحة لا تهيمن عليها أذربيجان وتركيا.
يتّهم الأرمن إسرائيل بالتواطؤ في عملية السيطرة العسكرية على إقليم ناغورنو-كاراباخ في أيلول/سبتمبر الماضي، والتي تسبّبت بنزوح جميع السكان الأرمن البالغ عددهم مئة ألف نسمة. ومن الأسباب الأخرى لتشنّج العلاقات الأرمنية الإسرائيلية الخلاف على الحيّ الأرمني في القدس، الذي بات مهدَّدًا الآن باستيلاء المستوطنين الإسرائيليين على 25 في المئة من مساحته.
ولكن كلّما طال أمد النزاع، ازدادت المشاكل التي يتسبّب بها لأذربيجان. فدبلوماسيتها العامة أقل صخبًا إلى حدٍّ كبير في دعمها لإسرائيل، على الرغم من التواصل القوي على مستوى النخبة. وهذا ليس مفاجئًا في جمهورية حيث 99 في المئة من سكانها هم من المسلمين. والحليف الأقرب إلى الرئيس الأذري إلهام علييف هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. حتى الآن، لم تُلحق مواقفهما المتباينة تمامًا من إسرائيل الضرر بعلاقتهما، أقلّه في العلن. ولكن قد تظهر بعض التصدّعات في تحالفهما إذا واصلت إسرائيل حربها على غزة بالحدّة نفسها.
كيف يمكن أن تؤثّر الحرب الدائرة في غزة على التزامات الغرب تجاه أوكرانيا؟
ألكساندر غابويف، مدير مركز كارنيغي روسيا وأوراسيا.
إن الصعوبات التي تواجهها أوكرانيا في الحصول على الدعم المالي من الغرب لتلبية حاجاتها الدفاعية بدأت حتى قبل اندلاع الحرب في غزة. فقد كان حجم حزم المساعدات العسكرية الأميركية والمنطق العام خلف الدعم الكبير لكييف محطّ تساؤلات في أوساط بعض الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس الأميركي. وقد أدّت الخلافات حول هذا الملفّ داخل الكونغرس إلى عرقلة تقديم مساعدات أساسية، وبدا واضحًا قبل هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر أن البيت الأبيض يبذل جهودًا حثيثة لإقناع الجمهوريين بجدوى الاستمرار في توفير الدعم لأوكرانيا.
منذ بدء الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، تمثّل التأثير الفوري والمباشر على أوكرانيا في تخصيص الموارد الأميركية، وعلى وجه الخصوص شحنات القذائف المدفعية من عيار 155 ملم التي تحتاجها بشدّة. وأعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن عمليات تسليم الذخائر الغربية قد تباطأت بسبب الوضع في غزة. وأشار رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون إلى أن الولايات المتحدة لا يجب أن تسمح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالانتصار في أوكرانيا، لكن الالتزامات المالية الثابتة التي صادق عليها الكونغرس لم تتجسّد بعد على أرض الواقع.
والجدير بالذكر أن الوضع في أوروبا أيضًا كان يتدهور منذ ما قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، وهي تُعدّ، إلى جانب الولايات المتحدة، من بين أكبر مزوّدي أوكرانيا بالمساعدات للدفاع عن نفسها في وجه العدوان الروسي. ومنذ ذلك الحين، ازدادت قتامة المشهد، مع العلم بأن الحرب في غزة ليست العامل الوحيد الذي يؤثّر على استمرارية الدعم لكييف. فالحكم الصادر عن المحكمة الدستورية الألمانية بشأن إنفاق الائتلاف الحاكم أموالًا على صندوق المناخ كانت مخصَّصة في الأساس لمكافحة تفشّي كورونا، تسبّب بأزمة موازنة في الاقتصاد الأكبر في الاتحاد الأوروبي، في ظل تزايد النقاشات في المجلس الأوروبي حول حجم الالتزامات المالية لكييف.
إلى جانب الموارد المادّية، يتعيّن على كبار مسؤولي الأمن القومي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تخصيص وقت مهمّ للشرق الأوسط، على حساب أولويات أخرى بما فيها أوكرانيا. فقد ساعد الوقت الذي كرّسه الرئيس الأميركي والقادة الأوروبيون الآخرون للوضع في أوكرانيا في العام 2022، كييف على تحقيق الكثير من الانتصارات خلال العام الفائت. لكن الوضع سيكون مختلفًا اليوم، إذ تزيد من هذه المشكلة ضرورةُ التركيز على الحرب في غزة، فضلًا عن الأزمات المحلية المتنامية في دول غربية كبرى.
يُضاف إلى ذلك أن المأساة في غزة فاقمت المشاكل الداخلية المتعدّدة التي ساهمت في تقليص الموارد التي يمكن أن يقدّمها الغرب إلى أوكرانيا. أما الطرف الوحيد الذي قد يستفيد من هذا الوضع فهو روسيا.
ما أوجه الاتساق والتباين في مواقف الدول الأفريقية من الحرب في غزة؟
جاين مونغا، زميلة في برنامج أفريقيا في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
زينب عثمان، مديرة برنامج أفريقيا في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
رشَحت مجموعة واسعة من المواقف من مختلف أنحاء القارة الأفريقية حول الحرب في غزة. وقد دعت ردود الفعل الأفريقية التي تمّ التعبير عنها في المنتديات المتعدّدة الأطراف وفي البيانات الرسمية عمومًا إلى وقف العمليات العسكرية، وأعادت التأكيد على دعم بلدانها لحلّ الدولتَين من أجل إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن ثمة اعتبارات مختلفة تدفع الدول إلى تبنّي موقف مؤيّد صراحةً للفلسطينيين أو للإسرائيليين، أو إلى تجنّب الانحياز العلني لطرفٍ دون آخر.
لقد صوّتت الأغلبية الساحقة من الدول الأفريقية في الأمم المتحدة لصالح قرارات تطالب بوقف إطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة. فقد تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا غير ملزم يدعو إلى هدنة إنسانية، بعد أن صوّتت 120 دولة لصالح القرار وعارضته 14 دولة، وامتنعت 45 دولة عن التصويت. وأفادت دراسة تحليلية أعدّتها شركة Development Reimagined أن أكثر من ثلث الدول التي صوّتت لصالح القرار (وعددها 39 دولة) كانت أفريقية، فيما امتنعت ست دول أفريقية فقط عن التصويت، ولم تصوّت أي دولة أفريقية ضدّ القرار. في المقابل، قدّمت كندا تعديلًا على القرار، مدعومًا من الولايات المتحدة وإسرائيل، ينصّ على إدانة الهجمات الإرهابية التي شنّتها حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر بشكل لا لبس فيه، فلم يحظَ إلا بدعم سبع دول أفريقية فقط، بينما صوّتت 23 دولة أفريقية ضدّه مُبديةً معارضتها لصياغته. في نهاية المطاف، فشل التعديل الكندي في الحصول على الأصوات المطلوبة لإقراره، أي على الأغلبية المحدّدة بثلثَي أصوات الجمعية العامة المؤلَّفة من 193 عضوًا.
أما الاتحاد الأفريقي، الذي يضمّ 55 دولةً في القارة الأفريقية، فأتى ردّه على الحرب في غزة متّسقًا مع موقفه الرسمي الراسخ حيال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ عبّر في بيان صادر عن رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي محمد، عن قلقه إزاء الخسائر في صفوف المدنيين، مناشدًا الطرفَين بالتوقف عن القتال، والعودة إلى طاولة المفاوضات من دون شروط مسبقة للتوصّل إلى حلّ الدولتَين، وداعيًا المجتمع الدولي إلى تسهيل عملية تحقيق السلام وضمان حقوق الفلسطينيين والإسرائيليين. لا شكّ أن هذا البيان ينسجم مع موقف الاتحاد الأفريقي الثابت منذ عقود تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على الرغم من سعي إسرائيل إلى الحفاظ على صفة عضو مراقب في المنظمة الأفريقية.
واقع الحال أن من أكثر البيانات المؤيّدة صراحةً للشعب الفلسطيني صدرت عن جمهورية جنوب أفريقيا ودول شمال أفريقيا، فيما بقيت دول عدّة في غرب أفريقيا وجنوبها متعاطفة مع القضية الفلسطينية، إلا أن مواقفها كانت أقل اندفاعًا. وفي خطوة جريئة، قدّمت جنوب أفريقيا، ومعها جزر القمر وجيبوتي وبنغلاديش وبوليفيا، طلبًا إلى المحكمة الجنائية الدولية بإجراء تحقيق بشأن ارتكاب إسرائيل جرائم حرب، من ضمنها مقتل مواطنين من جنوب أفريقيا في الغارات الجوية على غزة. في المقابل، عبّرت دول أفريقية أخرى، منها كينيا وغانا، صراحةً عن انحيازها إلى إسرائيل، وأدانت بشدّة هجمات حماس، واعترفت بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها في وجه الإرهاب. لكن الكثير من الدول الأفريقية حذت حذو نيجيريا وتبنّت خطابًا دبلوماسيًا بعبارات منتقاة بعناية، يدعو إلى الحلّ السلمي للنزاع عن طريق الحوار.
يُعزى التباين في وجهات النظر بين هذه الدول إلى عوامل عدّة، منها التجارب التاريخية لكل دولة، وروابطها السياسية والاقتصادية والثقافية، ومصالحها الوطنية. في الواقع، لمَسَت جنوب أفريقيا، على سبيل المثال، أوجه تشابه بين الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتجربتها الخاصة مع المشروع الاستعماري الاستيطاني في ظل نظام الفصل العنصري (الأبرتهايد)، فيما استندت كينيا إلى مواجهاتها مع الإرهاب في الآونة الأخيرة. فقد ألقى السفير مارتن كيماني، الممثل الدائم لكينيا لدى الأمم المتحدة، كلمةً خلال الجلسة العامة التاسعة والثلاثين للدورة الاستثنائية الطارئة العاشرة للجمعية العامة، قال فيها إن "كينيا على دراية جيّدة بالعواقب الوخيمة الناجمة عن الهجمات الإرهابية"، مشدّدًا على ضرورة عدم استخدام الإرهاب أبدًا من أجل ترقية قضية ما.
مع ذلك، عمَد قادة بعض الدول الأفريقة إلى تعديل مواقفهم الوطنية منذ هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ربما للتكيُّف مع التوجّهات العامة المتغيّرة. وخير مثال على ذلك كينيا نفسها. ففي كلمة أدلى بها الرئيس الكيني وليام روتو، خلال قمة سعودية أفريقية عُقدت في الرياض، بدا أنه يحاول تليين موقف بلاده الذي كان في البداية منحازًا بشدّة إلى إسرائيل، وأعرب عن دعمه "لحلّ الدولتَين كوسيلة لإنهاء الصراع"، واعتبر بعض المحللّين أن هذا التعديل أتى نتيجة الحضور المشارك. ويشير ذلك إلى أن مواقف الدول من هذا الصراع ليست ثابتة وعصيّة على التغيير، بل يمكن تعديلها وفق ما تمليه المصالح الوطنية المتبدّلة وتوجّهات الرأي العام.
باختصار، أثارت الحرب في غزة مجموعة متنوعة من ردود الفعل في القارة الأفريقية، لذا يجدر بنا ترقّب كيف يمكن أن تتطوّر هذه الاستجابات مع الوقت. فقد تمسّكت بعض الدول بمواقفها على نحو واضح وحاسم، وتبنّت دول أخرى مقاربة دبلوماسية حذرة، فيما لا تزال حفنة من الدول تُبدّل مواقفها تماشيًا مع الظروف المتغيّرة. وبينما تتوالى الحرب في غزة فصولًا، لا بدّ من الانتظار لرؤية كيف ستتأقلم الدول الأفريقية مع الأحداث، وما إذا ستظلّ التباينات قائمة أم سينشأ تقارب في المواقف.
كيف تؤثّر الحرب في غزة على المشاعر المعادية للمهاجرين في مختلف أرجاء أوروبا؟
مارك بييريني، زميل أول في مركز كارنيغي أوروبا.
شهدت أنحاء كثيرة من أوروبا تنامي المشاعر المعادية للمهاجرين غير النظاميين منذ موجة تدفّق اللاجئين بأعداد ضخمة من سورية إلى القارة الأوروبية في فترة 2015-2016. هذا الشعور تُذكي ناره أيضًا الشبكات الضالعة في الإتجار بالبشر التي تنشط بشكل أساسي في تهريب المهاجرين الاقتصاديين من غرب أفريقيا والقرن الأفريقي وجنوب آسيا إلى أوروبا.
إن الأحداث المأساوية التي تعصف بغزة وجنوب إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر لن تؤثّر بصورة مباشرة على تدفّقات اللاجئين، ولكنها قد تؤجّج السخط ليس فقط تجاه حماس، بل أيضًا وعلى نحو غير عقلاني أكثر، تجاه الفلسطينيين والعرب والمسلمين عمومًا. ويُحتمَل أن تثير المشاعر التي ولّدها توغّل مقاتلين من حماس داخل إسرائيل وإقدامهم على قتل مدنيين، ردود فعل تخلط بين الإرهابيين والمهاجرين غير النظاميين وطالبي اللجوء، وتصبّ في إطار كراهية الأجانب.
يفتقر معظم الأوروبيين إلى إلمام معمّق ومفصّل بسياسات الشرق الأوسط، لكنهم يخشون من الحروب التي تشهدها المنطقة، وهذا الخوف نابع من تداعيات الحرب الأهلية السورية وموجات نزوح المدنيين هربًا من ويلاتها. وينطوي السياق الذي نعيشه اليوم على عوامل سياسية عدة قد تسهم في تأجيج هذه المخاوف.
أولًا، تُبدّد السياسة التي ينتهجها مجلس الحرب الإسرائيلي اليوم أيَّ أمل واقعي بتحقيق نتيجة سياسية للفلسطينيين استنادًا إلى حلّ الدولتَين. بل على العكس، تظهر المؤشّرات أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يريد إجلاء الفلسطينيين من قطاع غزة والضفة الغربية.
ثانيًا، أعربت كلٌّ من مصر والأردن عن رفضهما استقبال الفلسطينيين المهجّرين من غزة أو الضفة الغربية على التوالي.
ثالثًا، يُرجَّح أن يستغلّ السياسيون الشعبويون من اليمين المتطرّف في أوروبا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وغياب أي أُفق سياسي مقبول لإقامة دولة فلسطينية، من أجل إحراز مكاسب انتخابية انطلاقًا من مخاوف لا علاقة لها بالصراع في حدّ ذاته.
ورابعًا، قد يكسب هذا التوجّه السياسي أيضًا زخمًا في ألمانيا بعد الزيارة التي أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى البلاد في 17 تشرين الثاني/نوفمبر، وتبنّى خلالها موقفًا حول حماس تعارض مع موقف المستشار الألماني أولاف شولتس، ووصفه مدير الشؤون الإعلامية في الرئاسة التركية على منصّة "إكس" (تويتر سابقًا) بأنه صوت الضمير العالمي.
إذًا، من المستبعد أن تؤثّر الحرب الدائرة في غزة بشكل مباشر على تدفّق المهاجرين أو اللاجئين إلى أوروبا. لكن الدوائر الشعبوية في القارة الأوروبية ستحاول على الأرجح تحقيق مكاسب سياسية انطلاقًا من المخاوف التي أوقدتها في نفوس أتباعها.
ما موقف البرازيل من الصراع الدائر بين إسرائيل وحماس في غزة؟
أوليفر ستونكيل، باحث غير مقيم في برنامج الديمقراطية والصراع والحوكمة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
لطالما سعى الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا إلى وضع البرازيل، أكبر دولة في أميركا اللاتينية، في مصافي القوى الفاعلة المهمّة على الساحة الدولية، وحجز مقعد لها على طاولة الدول القوية القادرة على توجيه النقاش العالمي. فقد سعى في العام 2010 إلى التفاوض، جنبًا إلى جنب مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على اتفاق نووي مع الرئيس الإيراني آنذاك محمود أحمدي نجاد، ما ولّد توتّرًا كبيرًا مع إدارة الرئيس أوباما. وعند عودته إلى سدّة الرئاسة في العام 2023، كانت إحدى أولى أولويّاته في السياسة الخارجية البحث عن وسيلة لإنهاء الحرب في أوكرانيا، حتى إن عددًا من تعليقاته أثار حيرة شركائه الغربيين. وعلى النحو نفسه، سارعت البرازيل، التي كانت تتولّى الرئاسة الدورية لمجلس الأمن عند وقوع هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر، إلى التفاوض لإصدار قرارٍ من مجلس الأمن يساعد في تخفيف حدّة التصعيد.
تكمن وراء هذه الاستراتيجيات قناعةٌ راسخةٌ بأن عمليات صنع القرار في العالم، ولا سيما في المجال الجيوسياسي، بقيت لفترة طويلة خاضعةً لهيمنة عدد قليل من القوى (الغربية في الغالب)، وبأن بلدان الجنوب العالمي، مثل البرازيل، تستحق أن تكون كلمتُها مسموعةً أكثر في أروقة صنع القرار، بما في ذلك في النقاشات حول كيفية حلّ الصراع المستمرّ بين إسرائيل وحماس. وترى البرازيل أن هذا الأمر ضروري نظرًا إلى التصوّر السائد بأن القوى الغربية، مثل الولايات المتحدة، غالبًا ما تطبّق القواعد والمعايير العالمية على نحوٍ انتقائيّ، على الرغم من تبنّيها خطابًا عالميًا شاملًا للجميع. بطبيعة الحال، يشير منتقدو البرازيل أحيانًا إلى أنها، وإن كان مُرحَّبًا بها للمشاركة في المفاوضات لمعالجة التحدّيات الجيوسياسية، لم تكن على استعدادٍ لتوفير قدرٍ كبيرٍ من المنافع العامة العالمية، خصوصًا في السنوات الأخيرة. فهي مثلًا قادت مهمّة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من أجل تحقيق الاستقرار في هايتي منذ 20 عامًا، ولكنها رفضت الاضطلاع بدور بارز في أحدث مهمّة دعمٍ في البلاد، والتي ستتولّى كينيا قيادتها.
ومنذ بداية الحرب في غزة، رأت البرازيل، مثلها مثل الكثير من البلدان النامية الأخرى، ازدواجيةً في المعايير في قرار الغرب إدانة الاحتلال غير الشرعي في أوكرانيا، وفي الوقت نفسه دعم إسرائيل التي تحتلّ كلًّا من الضفّة الغربية وغزة منذ العام 1967، وتواصل بناء المستوطنات في الضفة الغربية، ما يعتبره معظم الدول ممارسة غير قانونية. وفيما من المستبعد أن تؤدّي البرازيل دورًا ذا أهمية في التوسّط بين هذَين الطرفَين المتحاربَين، من المتوقّع أن تستمرّ إدارة لولا دا سيلفا في إبداء رأيها في هذه القضية.
وكما الحال في الكثير من البلدان الأخرى في العالم، تَسبَّب الصراع بين إسرائيل وحماس بانقسامٍ حادٍّ داخل المجتمع البرازيلي، ولذا كان لولا دا سيلفا حريصًا على التعبير عن مقاربة متوازنة حيال هذه القضية. فعلى الرغم من أن البرازيل لم تصنّف حماس منظمةً إرهابية، ندّد الرئيس البرازيلي بهجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، لا بل وصفها بأنها أعمال إرهابية، لكنه أعرب أيضًا عن قلقه البالغ حيال تزايد أعداد القتلى في صفوف المدنيين في غزة، وقال مؤخّرًا إن ردّ إسرائيل "لا يقلّ خطورة" عن هجمات حماس.
كيف يمكن أن يفاقم الصراع في غزة الانقسامات الداخلية في الهند؟
ميلان فايشناف، مدير برنامج جنوب آسيا في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، وزميل أول فيه.
يأتي الصراع بين إسرائيل وحماس في غزة في ظلّ تنامي حالة الاستقطاب السياسي في الهند، التي تُعزى إلى الرؤى المتضاربة في البلاد حول الأمّة الهندية في القرن الحادي والعشرين. فحزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، الذي يتزعّمه رئيس الوزراء ناريندرا مودي، يناصر إيديولوجيا الهندوتفا (أي التفوّق الهندوسي)، التي تنظر إلى الثقافة الهندوسية على أنها مرادفة للثقافة الهندية. في المقابل، يؤيّد حزب المؤتمر الوطني الهندي، الذي لا يزال القوة المُعارِضة الأكبر في البلاد، على الرغم من أدائه الانتخابي المخيّب في آخر دورتَين انتخابيّتَين عامّتَين، رؤيةً علمانيةً لا يحتلّ فيها أيّ دين الصدارة. مع أن المعارضة السياسية الأوسع متباينةٌ داخليًا للغاية بحيث من الصعب توصيفها بسهولة، يبدو أن ميزان توجّهاتها يعتمد على موقف المؤتمر الوطني الهندي.
والواقع أن الصراع الحالي يفاقم هذا الانقسام في المجتمع الهندي. فقد اتّخذت الهند، على خلاف البلدان الأخرى في الجنوب العالمي، موقفًا دبلوماسيًا يميل إلى إسرائيل أكثر ممّا يميل إلى فلسطين. فبعد عقود عدّة من توطيد العلاقات، أفصحت حكومة مودي صراحةً عن الروابط القائمة بين الهند وإسرائيل، كما تجلّى في تعبيرها الواضح عن التضامن مع إسرائيل مباشرةً بعد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر. يُعزى هذا المَيل إلى تحوّلات هيكلية مهمّة، إذ إن إسرائيل أصبحت في السنوات الأخيرة شريكًا دفاعيًا مهمًّا للهند. فوفقًا لبياناتٍ صادرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، وفّرت إسرائيل حوالى 10 في المئة من واردات الهند من الأسلحة في العام 2022. كذلك شهدت العلاقات الثنائية التجارية والاستثمارية نموًّا، واضطلع قطاع التكنولوجيا في كلٍّ من البلدَين بدور رياديّ في هذا المجال. يُضاف إلى ذلك أن حكومة مودي تكنّ لإسرائيل تعاطفًا كبيرًا لأنها ترى أن البلدَين وقعا ضحيّة عقودٍ من التطرّف الإسلامي العنيف. أخيرًا، بما أن المسلمين الهنود ليسوا جزءًا لا يتجزّأ من الائتلاف الانتخابي لحزب بهاراتيا جاناتا، تستطيع الهند توطيد علاقاتها مع إسرائيل من دون أن تخشى نشوب ردود فعل سياسية سلبية على ذلك داخل صفوف الحزب. وصحيحٌ أن حكومة مودي لا تزال من أشدّ مؤيّدي حلّ الدولتَين، إلا أنها لم تسمح لهذا الالتزام المُعلَن بإملاء أجندتها السياسية.
مع ذلك، أبدت شرائح من المعارضة، والمجتمع المدني، والجمهور العام، غضبًا واستنكارًا إزاء القصف الإسرائيلي المكثّف على غزة، والأزمة الإنسانية التي نجمت عنه، وما كان من الحكومة الهندية إلّا أن قمعت الاحتجاجات المؤيّدة للفلسطينيين، وضيّقت الخناق على منشورات وسائل التواصل الاجتماعي المتضامنة مع الفلسطينيين في محنتهم. واقع الحال أن هذه الانقسامات ستزداد حدّةً إذا ما اشتدّ وطيس الحرب أو امتدّت إلى البلدان المجاورة. لكن، إن لم يحدث ذلك، ستتمحور معارك الهند السياسية على الأرجح حول قضايا داخلية، فيما تقف على بُعد أشهر فقط من الانتخابات العامة، وطالما لم تنشب أزمة متجدّدة مع منافسَيها القديمَين، باكستان والصين.
كيف فاقمت الحرب في غزة حالة الانقسام في الولايات المتحدة، ولا سيما داخل الحزب الديمقراطي؟
جايك والاس، زميل أول غير مقيم في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
أطلقت الحرب بين إسرائيل وغزة ردود فعل قوية على نحو غير مسبوق في أوساط الرأي العام الأميركي، إذ جابت مظاهرات حاشدة شوارع واشنطن العاصمة ومدن أخرى دعمًا للفلسطينيين، وأخرى تأييدًا للإسرائيليين. على الصعيد السياسي، تركّز الجزء الأكبر من النقاش حول هذه المسألة في الولايات المتحدة على الحزب الديمقراطي، إذ وضع فئتَين مهمّتَين على طرفَي نقيض، وهما: الأميركيون اليهود من جهة، والقوى التقدّمية من جهة أخرى. يثير هذا الوضع تساؤلَين: أولًا، كيف سيؤثر هذا النقاش على موقف إدارة بايدن من الحرب؟ وثانيًا، كيف سيكون وقعه على الانتخابات الرئاسية المرتقبة في العام 2024؟
منذ الهجمات التي شنّتها حماس على إسرائيل والتي أطلقت شرارة هذه الحرب يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، حافظت إدارة بايدن على دعمها الثابت للردّ العسكري الإسرائيلي، على الرغم من الضغوط التي يمارسها الجناح التقدّمي في الحزب الديمقراطي لتبنّي نهجٍ أكثر توازنًا ودعم خيار وقف إطلاق النار. لكن مع مرور الوقت، عمدت الإدارة إلى تعديل بياناتها الرسمية للتركيز بشكل أكبر على حماية المدنيين الأبرياء وتقديم المساعدات الإنسانية وإعادة طرح حلّ الدولتَين كأساسٍ لإنهاء الصراع. ويشير ذلك إلى أن إدارة بايدن تسعى إلى تحقيق توازنٍ بين الضغوط المتضاربة التي تواجهها، محاولةً الاستجابة للموقف المؤيّد للشعب الفلسطيني في أوساط اليسار الأميركي من جهة، والحفاظ على موقفها الأساسي الداعم لإسرائيل من جهة أخرى. وفي المرحلة المقبلة، قد يتّسع الشرخ القائم بين المواقف الأميركية والإسرائيلية حول بعض القضايا المرتبطة بالعمليات، لكن غالب الظن أن يبقى الدعم الأميركي الثابت لإسرائيل على حاله.
أما في ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية المرتقبة في العام 2024، فلا يزال من السابق لأوانه استخلاص أي استنتاجات مؤكدة. نادرًا ما يستند الأميركيون في تصويتهم إلى قضايا السياسة الخارجية، ناهيك عن أن الموقف الداعم لإسرائيل لا يزال يحظى بشعبية كبيرة في أوساط الناخبين الأميركيين. لكن المعارضة الشديدة لمقاربة الرئيس جو بايدن في أوساط التقدميين والأميركيين العرب قد تعيق جهود إعادة انتخابه لولاية رئاسية جديدة. فما يثير القلق على وجه الخصوص هو التراجع الحاد في الأصوات الداعمة لبايدن ضمن فئة الناخبين الشباب. صحيحٌ أن هذه التوجّهات قد لا تعبّر عن تحولات واسعة النطاق في أنماط التصويت الإجمالية، لكن من المرجّح أن تكون نتائج الانتخابات متقاربة، حتى أن التقلبات الطفيفة في التصويت قد تؤثر على النتيجة. ففي ولاية ميشيغان مثلًا، التي تضمّ عددًا كبيرًا من الأميركيين العرب، يمكن أن يؤدّي تغيّر تصويت حوالى 150 ألف ناخب إلى تأرجح الأصوات الانتخابية خارج المعسكر الديمقراطي.
هل تتوقعين تبدُّلاً في موقف الولايات المتحدة من الردّ الإسرائيلي في غزة؟
سارة يركيس، زميلة أولى في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
في أعقاب الهجمات التي شنّتها حماس على إسرائيل يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، كانت إدارة بايدن واضحة في وقوفها إلى جانب إسرائيل وإعطائها الهامش اللازم للإفراج عن مئات الرهائن المدنيين ومنع حماس من تنفيذ هجمات مماثلة في المستقبل. لكن خلال الأسابيع التي تلت الهجوم، أثارت الحملة الجوية والبرية التي شنّتها إسرائيل على غزة إدانات واسعة حول العالم، ووُجّهت إليها اتّهامات بارتكاب جرائم حرب بسبب سقوط أعداد كبيرة من القتلى في صفوف المدنيين، من بينهم آلاف الأطفال الفلسطينيين، فتبدّلت البيانات الرسمية الأميركية، ما أوضح أن ثمة مسافة تفصل بين مواقف حكومَتي بايدن ونتنياهو.
مع ذلك، من المرجّح أن تحول قيودٌ أميركية محلية عدّة دون حصول أي تغيير جذري في النهج الذي تتّبعه واشنطن حيال الصراع. أولًا، إن الولايات المتحدة على موعدٍ، بعد أقل من عام، مع انتخابات رئاسية يُرجَّح أن تشهد منافسة جديدة بين الرئيس جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب. وفيما انتقد عددٌ متزايد من الأميركيين، ولا سيما في الجامعات، طريقة تعامل بايدن مع الحرب، أظهر استطلاع للرأي أجرته شبكة "إن بي سي نيوز" بين 10 و14 تشرين الثاني/نوفمبر، أن ما يقرب من نصف الناخبين الأميركيين يعتقدون أن الأعمال العسكرية الإسرائيلية مبرّرة، مقارنةً مع 30 في المئة فقط من الناخبين الأميركيين الذين يعتقدون أنها غير مبرّرة. يُضاف إلى ذلك أن تصويت الأميركيين لا يستند عمومًا إلى السياسة الخارجية. ومع أن بايدن يفقد بعض الدعم في ولايات رئيسة، ما من معطيات تؤكّد على أن اتخاذ موقف أكثر انتقادًا لإسرائيل سيُكسبه أصواتًا. فالجمهوريون هم الأكثر انتقادًا لطريقة تعامل بايدن مع الحرب، إذ إن 70 في المئة منهم يعارضون نهج إدارته، وسيفضلّون ترامب، الذي يَعد بفرض حظر جديد وأوسع نطاقًا على سفر المسلمين إلى الولايات المتحدة في حال إعادة انتخابه رئيسًا في العام 2024.
ثانيًا، كشف الصراع عن حدّة الانقسام في مختلف أنحاء الولايات المتحدة وفاقم، ظاهرتَي معاداة السامية وكراهية الإسلام. فقد أفاد مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية أنه وثّق، خلال الشهر الأول من الحرب الدائرة في غزة، زيادة حوادث التحيّز ضدّ المسلمين في الولايات المتحدة بنسبة 216 في المئة. وكشفت رابطة مكافحة التشهير بدورها عن ارتفاع حوادث معاداة السامية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر بنسبة 388 في المئة. والجدير بالذكر أن مظاهر معاداة السامية على وسائل التواصل الاجتماعي كانت آخذةً في الازدياد حتى قبل هجوم حماس، بحيث دعم إيلون ماسك، على منصة "إكس" (تويتر سابقًا) التي يملكها، منشورًا يُعدّ ترويجًا بغيضًا لخطاب معاداة السامية.
وثالثًا، يُقدَّر أن عشرة أميركيين لا يزالون في عداد الرهائن المحتجَزين لدى حماس، وقد قُتل 35 مواطنًا أميركيًا على الأقل يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. وعلى الرغم من أن إدارة بايدن لا ترغب في الانخراط بصورة مباشرة في حرب أخرى في الشرق الأوسط، اضطُرَّت إلى ذلك نظرًا إلى وجود رهائن أميركيين في غزة.
واقع الحال هو أن إسرائيل، حليفة الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، تُحارب مجموعة صنّفتها واشنطن بالإرهابية وتحتجز رهائن أميركيين خلال عام انتخابي. لذا، من غير الواقعي ببساطة أن نتوقّع تغييرًا جذريًا في الموقف الأميركي في ظلّ السياق الراهن.
كيف سيؤثّر الانقسام الحادّ حول الحرب في غزة على الديمقراطيات الغربية التي تعاني أساسًا من تنامي الشعبوية؟
ريتشارد يونغز، زميل أول في برنامج الديمقراطية والنزاع والحوكمة في مركز كارنيغي أوروبا.
من الواضح أن الصراع في غزة أحدث استقطابًا في الآراء داخل الديمقراطيات الأوروبية. فقد أدّى إلى اتساع هوّة الانقسامات السياسية في عددٍ كبير من المجتمعات الأوروبية بين يسار الطيف السياسي ويمينه. لقد تسبّب الغزو الروسي لأوكرانيا بهذا الانقسام إلى حدٍّ ما، ولكن النزاع الأوكراني لم يحجز لنفسه مكانًا في صُلب الانقسامات الداخلية الأوروبية بالدرجة نفسها كما الأحداث في الشرق الأوسط.
كان لتفجّر الجولة الراهنة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تأثيرٌ مؤذٍ جدًّا لجملةٍ من الأسباب، منها أنه يندرج ضمن مناخ سياسي يشهد في الأصل انقسامًا حادًّا. وهذه واحدة من مسائل عدّة تسهم في استفحال الانقسام الضارب الجذور. من المهمّ أيضًا الابتعاد عن الغلوّ في هذا الصدد: فأثرُ النزاع على هشاشة الديمقراطيات الأوروبية كبير، ولكنه ثانوي مقارنةً مع الأزمات الأخرى الكثيرة التي أذكت نار النزعة الشعبوية غير الليبرالية والانقسامات على أساس الهوية خلال العقد المنصرم.
والحال هو أن هذا الانقسام الحادّ يقابله موقف أكثر وسطيةً أدان العنف والتجاوزات لدى طرفَي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. وقد ساهم انتشار هذا الموقف جزئيًا في التخفيف من تأثير الانقسام حول النزاع على السياسات الداخلية. ولكن هذا الموقف يترافق أيضًا مع التزام الحذر من أي نوع من أنواع التدخّل في محاولات التوصّل إلى حلول للأزمة.
وفيما يعمد كلٌّ من طرفَي النزاع روتينيًا إلى اتهام الأوروبيين بالتحيّز أو حتى بالتمييز ضدّه، وهي تصوّرات متجذّرة في أخطاء الأوروبيين ومسؤولياتهم في الماضي، يبقى الاتحاد الأوروبي محكومًا بالسير على حبل دبلوماسي رفيع. وممّا لا شك فيه أن تأثير عدم التدخل والوقوف على مسافة متساوية من الطرفَين ليس حياديًا على أرض الواقع، نظرًا إلى الاختلالات في توازن القوى بين الجانبَين الإسرائيلي والفلسطيني.
تزيد كل هذه الاعتبارات من تردّد الاتحاد الأوروبي حيال الذهاب بعيدًا في التدخل في النزاع. فعلى الرغم من بعض المبادرات الدبلوماسية ومن الكلام المعتاد عن ضرورة "العودة إلى حلّ الدولتَين"، كان الشاغل الأساسي للاتحاد الأوروبي هو التخفيف من التداعيات الممتدّة للنزاع على الأزمات التي تستوجب حاليًا الاهتمام داخل أوروبا نفسها.
ما الدور الذي قد تؤدّيه الصين بعد الحرب الدائرة في غزة، نظرًا إلى نفوذها المتنامي في الشرق الأوسط؟
تونغ جاو، زميل أول في مركز كارنيغي الصين.
لقد أبدت الصين طموحًا متزايدًا للتوسّط في سبيل تهدئة التوتّرات في الشرق الأوسط، حيث اتّبعت في السنوات الأخيرة نهجًا استباقيًّا في سياستها الخارجية سعيًا إلى التأكيد على نفوذ بيجينغ الجيوسياسي العالمي. والسؤال المهمّ اليوم هو ما إذا كان الصراع بين إسرائيل وحماس، الذي سلّط الضوء على التعقيدات المتأصّلة في نزاعات الشرق الأوسط والمخاطر السياسية الكبيرة التي تواجهها الأطراف الخارجية الراغبة في التدخّل، سيحدّ من سقف طموحات الصين ويثنيها عن الانخراط أكثر.
غالب الظنّ أن الصين ستركّز على توطيد نفوذها الجيو-اقتصادي في الشرق الأوسط. فعلى الرغم من الحرب، تلمس بيجينغ تحوّلًا في معظم بلدان الشرق الأوسط من التركيز التقليدي على الصراعات الأمنية الإقليمية، نحو إعطاء الأولوية إلى التنمية الاقتصادية المحلية. وترى الصين أن هذا التحوّل يفسّر ما تصفه بـ"موجة المصالحات" الأخيرة بين دول المنطقة، وأنه يشكّل فرصة كبرى أمامها لتكثيف استثماراتها على المستوى الجيو-اقتصادي في الشرق الأوسط، والاستفادة من قوّتها الاقتصادية لتعزيز نفوذها الجيوسياسي.
في المقابل، سيتأثّر الدور الذي ستؤدّيه الصين في الأمن الإقليمي إلى حدٍّ كبير بديناميات علاقتها مع الولايات المتحدة. ففي ظلّ الحرب الدائرة في غزة، استفادت الصين من الوقوف على الهامش والحفاظ على صورة الحياد والتمسّك بموقف أخلاقي أسمى، خلافًا للولايات المتحدة التي تكبّدت تكاليف باهظة في سعيها إلى التأثير على سلوك القوى الرئيسة، وواجهت انتقادات دولية وانقسامًا داخليًا بسبب التداعيات الإنسانية للصراع.
حتى الآن، يبدو موقف بيجينغ مدفوعًا إلى حدٍّ كبير بنيّتِها الحطّ من سمعة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، والحدّ من شرعيتهم ونفوذهم، كما تدلّ عليه عناوين الصحف الحكومية، على غرار "مؤيّدو الصين مؤيّدون للسلام، ومؤيّدو الولايات المتحدة مؤيّدون للحرب". واللافت أن الرئيس الصيني شي جينبينغ ألقى كلمة أمام قمّة استثنائية خاصة غير مسبوقة عقدتها دول مجموعة بريكس لمناقشة الصراع بين إسرائيل وحماس، بهدف إعلاء أصوات المنظمات غير الغربية.
تسود الشكوك على نطاق واسع في بيجينغ بأن الاتفاقيات الإبراهيمية المدعومة من الولايات المتحدة قد تعيد إشعال فتيل التوتّرات العربية الإيرانية، وتقوّي التحالفات الأمنية التي تقودها واشنطن، ما قد يؤدّي إلى نشوء تحالف في الشرق الأوسط شبيهٍ بحلف شمال الأطلسي. هذه المخاوف بشأن النفوذ الأميركي هي العائق الأول في وجه التعاون بين الصين والولايات المتحدة في الشؤون الأمنية الإقليمية.
مع ذلك، إذا كانت الصين تتبنّى بالفعل نهجًا تصالحيًّا أكثر في التعامل مع الولايات المتحدة، ولا سيما بعد القمّة الثنائية الأخيرة في اجتماع منتدى التعاون الاقتصادي لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في سان فرانسيسكو، فثمّة مجالات مهمّة للتعاون المحتمل بين الجانبَين. على سبيل المثال، يشكّل تأييد كلٍّ من بيجينغ وواشنطن لحلّ الدولتَين باعتباره السبيل لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أساسًا متينًا لإطلاق جهودٍ أميركية صينية مشتركة لإرساء سلام دائم في المنطقة، إذا ما أظهرت قيادتا البلدَين التزامًا صادقًا بهذه المحصّلة.