كان للانقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس المصري محمد مرسي في أوائل تموز/يوليو 2013، والحملة التي شنّتها الحكومة الجديدة بعد ذلك على الإخوان المسلمين، تأثير كبير على البيئة السياسية والأمنية والحقوقية في مصر. بيد أن تأثيرات هذه الأحداث خارج حدود مصر، في شمال أفريقيا والمشرق العربي والخليج وتركيا، كانت مهمة هي الأخرى.
أدّى الحدث المصري إلى مفاقمة حدّة التوتّرات بين الإسلاميين والعلمانيين عموماً، ودفع المنطقة في اتجاه سياسات الحصيلة صفر (الغالب يفوز بكل شيء) بدلاً من أن يؤدّي إلى بناء الإجماع. فقد أصبح القادة الإسلاميون والأحزاب الإسلامية التي كانت تتصرّف قبل عام واحد كما لو أن وصولها إلى السلطة عبر صناديق الانتخابات كان حتميّة تاريخية، في موقف دفاعي الآن. وفي الوقت نفسه، يبدو العلمانيون، سواء في المعارضة أو في السلطة، أكثر توكيداً للذات وأقلّ استعداداً للتسويات. وقد حَدَت هذه الديناميكية ببعض الإسلاميين لأن يصبحوا أكثر عناداً في انعزالهم. لابل وصل الأمر بهذه الديناميكية، في بعض الحالات، إلى إنعاش الانشقاق الإسلامي بطرق مثيرة للدهشة.بطبيعة الحال، ونتيجة لهذه التوجّهات، أصبح الإسلاميون الآخرون أكثر تواضعاً في توقّعاتهم. ففي بعض البلدان، ولاسيّما في تونس، نظر الإسلاميون المنتخبون الذين كان لديهم الكثير مما يخسرونه، إلى مصير زملائهم الإسلاميين وقرّروا تقديم تنازلات بغية تجنّب نشوب مواجهة شاملة مع الأطراف الأخرى في العملية السياسية.
في هذه الأثناء، لم يقتصر تأثير الحدث المصري على السياسات المحلية، بل ترك بصماته أيضاً على السياسات الخارجية في جميع أنحاء المنطقة. فبعد إطاحة مرسي، جرى إعادة ترتيب شراكات مصر الإقليمية تماماً. إذ تدهورت علاقات مصر بشكل كبير مع الدول التي كانت تقيم علاقة ودّية مع الحكومة الإسلامية وانتعشت مع تلك التي عارضت جماعة الإخوان المسلمين. وأدّى الانقلاب في مصر إلى تنشيط السياسات الخارجية للقوى الإقليمية الأكثر محافظةً في الشرق الأوسط، بزعامة المملكة العربية السعودية، في حين بقيت البلدان التي لم تكن راضية عن الأحداث في مصر (تركيا في المقام الأول) على الهامش للاحتجاج على تصرّفات الحكومة المصرية المدعومة من الجيش.
شمال أفريقيا: تونس وليبيا والمغرب
كان التونسيون "الشعب الوحيد الذي استفاد مما حدث في مصر"، وفقاً للناشطة أميرة اليحياوي. فقد أدّت التأثيرات غير المقصودة للانقلاب في مصر إلى مفاقمة التوتّرات، في البداية، بين الإسلاميين وبين العلمانيين في تونس، بيد أنها ساعدت بعد ذلك في إقناع الإسلاميين بالتوصّل إلى حلول وسط للحيلولة دون فشل التجربة الديمقراطية في البلاد.
في البداية، اتّسمت عملية الانتقال السياسي في تونس، بعد إطاحة الرئيس زين العابدين بن علي في العام 2011، بزيادة حدّة الاستقطاب بين الإسلاميين في حزب النهضة الحاكم (التابع لجماعة الإخوان المسلمين) وبين خصومهم العلمانيين. وقد تصاعد التوتّر بعد اغتيال السياسي اليساري البارز شكري بلعيد في شباط/فبراير 2013.
بعد أن أطاح الجيش المصري مرسي، تصرّفت الفصائل السياسية التونسية بطريقة تعكس الانقسام الذي تعاني منه البلاد. فقد أدانت الحكومة التي يقودها حزب النهضة خطوات الجيش المصري باعتبارها "انقلاباً على الشرعية"، ما أدّى إلى فتور في العلاقات بين البلدين. وفي الوقت نفسه، أسّس النشطاء العلمانيون طبعتهم الخاصة من حركة "تمرّد" في مصر. وعلى غرار مافعلته حركة تمرّد المصرية عندما دعت إلى استقالة مرسي وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، طالبت الطبعة التونسية بحلّ الجمعية الوطنية التأسيسية في تونس، وهي الهيئة المكلفة إعداد دستور جديد للبلاد، وإجراء انتخابات مبكرة.في البداية، بدت ردود الفعل هذه غير منطقية نسبياً. ومع أن الناشطين تمكّنوا من تأمين الحصول على دعم أكبر أحزاب المعارضة في تونس، نداء تونس، فقد فشلوا في كسب شعبية كبيرة في الشارع.
بيد أن هذا كله تغيّر غداة اغتيال سياسي يساري ثانٍ، هو محمد براهمي، في نهاية تموز/يوليو 2013. فقد نظّمت أحزاب المعارضة في تونس تظاهرات احتجاجية كبيرة وبدأت في اعتماد استراتيجية العلمانيين المصريين على نحو أكثر صراحة، ملقية باللائمة على حزب النهضة بسبب فشله في كبح جماح المتطرّفين الدينيين. وبعد تشكيل جبهة الإنقاذ الوطني التونسية التي كانت تهدف إلى تنسيق الإجراءات المناهضة للحكومة، بدأت الأحزاب التونسية حملة من الاحتجاجات والعصيان المدني استمرّت بضعة أسابيع، بهدف الضغط على حزب النهضة كي يتخلّى عن السلطة. وتصاعدت الأزمة طوال شهر آب/أغسطس حيث ادّعت المعارضة أن "أي مفاوضات من دون حلّ فوري للحكومة ستكون مضيعة للوقت".
مع ازدياد نبض الجرأة في شرايين المعارضة، استبدّ القلق بحركة النهضة خشية أن تواجه مصير جماعة الإخوان المسلمين المصرية نفسه. وتبعاً لذلك، قدّم حزب النهضة الإسلامي تنازلات في الأسبوع الأول من آب/أغسطس، وطرح الفكرة التي تقول إنه يمكن أن يقبل إجراء تغيير حكومي لكنه لن يقبل حلّ الجمعية الوطنية التأسيسية.
مع تضاؤل حجم دعم احتجاجات المعارضة في الخريف، دخل الجانبان في مفاوضات واتفقا على وضع إطار لحلّ الأزمة. بموجب هذا الإطار، تخلّى حزب النهضة عن السيطرة على الحكومة، وتم إصدار دستور جديد في 26 كانون الثاني/يناير. والآن، من المقرّر أن تجرى الانتخابات في العام 2014. وهكذا، لاتزال العملية الانتقالية في تونس تمضي قدماً، على الأقلّ حتى الآن.
أما في ليبيا فقد تردّدت أصداء عزل مرسي من جانب الجيش المصري لدى مختلف ألوان الطيف السياسي، وتصاعدت حدّة التوتّر بين الإسلاميين وبين العلمانيين، في بيئة سياسية وأمنية مضطربة للغاية.
في أعقاب الانقلاب، هاجمت جماعة الإخوان المسلمين الليبية، التي كانت تشارك بصورة محدودة في الحكومة في ذلك الوقت، حكومة رئيس الوزراء علي زيدان العلمانية في معظمها. فقد حمل الجناح السياسي للحركة، حزب العدالة والبناء، على زيدان بسبب لقائه مع وزير الدفاع المصري عبدالفتاح السيسي في أيلول/سبتمبر 2013، متّهماً الأول بتأييد الانقلاب المصري واستغلال مايحدث في مصر لتحويل الأنظار عن إخفاقات حكومة بلاده. وكرّرت قيادة حزب العدالة والبناء أيضاً تهديدات سابقة بالانسحاب من الحكومة، ودعت مراراً المجلس التشريعي في ليبيا، المؤتمر الوطني العام، إلى التصويت بسحب الثقة من زيدان. وبعد أن فشل في هذه المحاولة، سحب حزب العدالة والبناء وزراءه الخمسة من حكومة زيدان، بمن فيهم وزير النفط في كانون الثاني/يناير 2014.
تميّز تفاعل بعض أعضاء حزب العدالة والبناء مع سقوط مرسي بالتأمّل والتفكّر الذاتي، وذكروا في وسائط الإعلام الاجتماعية بأن جماعة الإخوان المسلمين الليبية تحتاج إلى تصحيح بعض أخطاء الماضي وإلى التواصل بصورة أفضل مع فئة الشباب.
في هذه الأثناء، عمدت الأصوات المندرجة في ائتلاف القوى الوطنية ذي الميول العلمانية وبعض هيئات الجيش الليبي إلى إعادة الحديث عن حجج أكل الدهر عليها وشرب تقول إن حزب العدالة والبناء وجماعة الإخوان أكثر ولاءً لمرشد الإخوان في مصر من الدولة الليبية نفسها. وأسهمت الإشاعات المتواصلة، التي لا أساس لها، والتي تقول إن أنصار مرسي حصلوا على ملاذٍ آمنٍ في شرق ليبيا في إذكاء مثل هذه المزاعم.
كما أثار الانقلاب المصري مناقشات حول العلاقات بين السلطتين المدنية والعسكرية وحول إصلاح القطاع الأمني في ليبيا. فقد أشاد خصوم الإسلام السياسي، بمن فيهم العديد من القبائل المؤيدة للفدرالية والتي لها روابط عائلية مع قبائل في مصر، بالحملة التي شنّها السيسي على جماعة الإخوان المسلمين، ودعوا إلى حضور أقوى للجيش الليبي من شأنه أن يقلّص قوة الميليشيات الإسلامية، ولاسيّما في مدينة بنغازي المضطربة شرق ليبيا. وقال زعيم قبلي من مؤيّدي الفيدرالية في بنغازي في حديث خاص في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، "نريد سيسي هنا". وأضاف: "إذا ماحقّق الأمر نجاحاً في مصر فسيتحقّق هنا أيضاً".غير أن قادة الميليشيات الإسلامية اختاروا مساراً مختلفاً. فقد اعتبر البعض محاولات زيدان الهادفة إلى بناء جيش ليبي جديد تدرّبه الولايات المتحدة، محاولة لنسخ تجربة الدولة الاستبدادية التي يقودها السيسي في مصر. وأشارت إحدى الشخصيات الإسلامية في بنغازي إلى قائد القوات الخاصة في المدينة الذي يحظى بشعبية كبيرة على أنه "سيسي بنغازي"، معتبرة أن هذه القوات "تعسكر الحياة" في الشرق الليبي.
على عكس بلدان أخرى في المنطقة، لم تتأثّر علاقة ليبيا مع مصر سوى نسبياً بانقلاب تموز/يوليو، على الرغم من أن عدداً من القضايا العالقة لاتزال تغشى العلاقات الليبية – المصرية. وتعتبر الحدود المصرية - الليبية التي يسهل اختراقها أحد مصادر التوتّر، حيث أسهمت عمليات خطف سائقي الشاحنات المصرية من جانب القبائل الليبية، وتدفّق الأسلحة عبر الحدود إلى مصر، والهجرة غير القانونية للأيدي العاملة المصرية إلى ليبيا، في تدهور العلاقات بين البلدين. لكن ربما أسهمت إطاحة مرسي في إحداث تحسّن طفيف في عمليات مراقبة الحدود، لأنه يبدو أن الحكومة المصرية الجديدة تتبنّى موقفاً أقوى بشأن أمن الحدود المصرية - الليبية وأمن الصحراء الغربية بشكل عام. والحال أنه يجري التعامل مع الكثير من قضايا الأمن على الحدود من جانب عناصر غير رسمية من القبائل، ومن الميليشيات على الجانب الليبي. وهذه الجهات الفاعلة المحلية لم تتأثر نسبياً بتغيير النظام في القاهرة.
شهدت العلاقات منعطفاً نحو الأسوأ في أواخر كانون الثاني/يناير الماضي، عندما اعتقلت السلطات المصرية زعيم ميليشيا ليبية شبه رسمية ذي ميول إسلامية بينما كان يتلقّى العلاج الطبي في القاهرة على ماقيل. ادّعت السلطات المصرية يومها أن جماعة الإخوان المسلمين رعت زيارة هذه الشخصية، الأمر الذي تسبّب في عملية اختطاف انتقامية لخمسة من الدبلوماسيين المصريين في طرابلس قامت بها إحدى الميليشيات الليبية. وعلى الرغم من الإفراج عن المعتقلين في عملية مبادلة، فإن تلك الحادثة دفعت زيدان إلى زيارة القاهرة.
بالنسبة إلى الإسلاميين في الحكومة المغربية، كان العام 2013 صعباً، ويرجع ذلك في جزء منه إلى الأحداث في مصر. فقد أدّى انهيار جماعة الإخوان المصرية إلى تعرّض حزب العدالة والتنمية الإسلامي في المغرب إلى انتقادات حادّة. وبعد مرور أيام قليلة على الانقلاب في مصر، شهد المغرب تشكيل حركة تمرّد، وانسحب حزب الاستقلال، وهو شريك رئيس لحزب العدالة والتنمية في الائتلاف الحاكم، من الحكومة ودعا رئيس الوزراء إلى الاستقالة "مثل شقيقه الإخواني" محمد مرسي. حصل حزب العدالة والتنمية على شريك جديد في الائتلاف هو التجمع الوطني للأحرار في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، غير أن الحزب وجد صعوبة متزايدة في تحقيق الكثير أثناء وجوده في السلطة. لابل إن رئيس الوزراء الإسلامي المشاكس والشعبوي، عبدالإله بنكيران، أصبح يبدو وكأنه ملاكم محترف مصاب اضطرَّ إلى الانحناء والخضوع للدفاع عن نفسه.
نتيجة لذلك، تلاشت الآمال الكبيرة لحزب العدالة والتنمية في مكافحة الفساد وتنفيذ الدستور الجديد الذي تمّت الموافقة عليه في استفتاء جرى في تموز/يوليو 2011. وبالتالي أصبح التمسك بالسلطة والحفاظ على وحدة الحزب هدفين في حد ذاتهما. وبحلول نهاية كانون الأول/ديسمبر 2013، أفسحت مقولة بنكيران المفضلة "إصلاح في إطار الاستقرار"، والتي توصف بأنها طريق وسط بين التغيير الثوري وبين نظام الحكم القديم، المجال أمام استراتيجية جديدة تركّز على البقاء والاستقرار السياسي، حتى لو جاءت بالحدّ الأدنى من الإصلاحات.
قدّم بنكيران الكثير من التنازلات لكنه فشل حتى الآن في بناء علاقة مربحة لكلا الطرفين مع أجهزة السلطة الرئيسة المقرّبة من القصر. إذ تخشى النخب الإعلامية والتجارية والسياسية التي استفادت من الوضع السابق في المغرب من أن تعزّز النجاحات التي يحققها حزب العدالة والتنمية على صعيد السياسات حصة الحزب من الناخبين، وتهدّد مصالحها في نهاية المطاف. كما يواجه حزب العدالة والتنمية معارضة سياسية تبدو أكثر اهتماماً بالعرقلة وإذكاء الحروب الإيديولوجية منها بتقديم بدائل جادّة لسياسات الحزب الحاكم.
المشرق: فلسطين وسورية ولبنان والأردن
ربما لم يتأثّر أي نظام سياسي بالأحداث في مصر أكثر من فلسطين. وفي نهاية المطاف، قد تزيد التطورات في مصر من ترسيخ الواقع الصعب هناك.
كانت الآمال الكبيرة تحدو حماس، الحركة الإسلامية التي تقود الحكومة في قطاع غزة، في أن تفضي رئاسة مرسي إلى إعادة هيكلة النظام الإقليمي، بما يسمح للحركة ببناء مروحة جديدة من التحالفات تحلّ محلّ تحالفاتها مع سورية وإيران والتي توتّرت بسبب الحرب الأهلية في سورية. كانت الحركة تأمل أيضاً في أن يساعد وجود الإسلاميين في السلطة في مصر على كسر الحصار الذي تفرضه مصر وإسرائيل على غزة، وعلى حثّ الأطراف الدولية الفاعلة على التعامل مع الحركة الإسلامية بدلاً من الاستمرار في إدارة الظهر لها.
في الضفة الغربية، نظرت الحكومة العلمانية بقيادة السلطة الفلسطينية إلى صعود جماعة الإخوان المصرية بقدر كبير من الخوف. فقد وصلت قيادتها إلى مرحلة باتت تعتمد فيها بصورة كبيرة جداً على نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك لتأمين الدعم الدبلوماسي. وبعد إطاحة مبارك في العام 2011، أثار منظر الرئاسة المصرية وهي تؤول إلى حليف إسلامي لحماس، خصمها اللدود، قلق قيادة السلطة الفلسطينية.لم تنجح رئاسة مرسي سوى في إحداث بعض التغييرات الهامشية في السياسة الفعلية للنظام المصري، حيث بقي معظم الملف الفلسطيني في عهدة الجيش، وخصوصاً الأجهزة الأمنية، بدلاً من نقله إلى الساسة الإسلاميين. ومع ذلك، ترتّبت على سقوط مرسي عواقب وخيمة بالنسبة إلى الفلسطينيين.
كانت البيئة العامة بعد 3 تموز/يوليو في مصر معادية للفلسطينيين بشكل عام ولحركة حماس وقطاع غزة بشكل خاص. إذ كان التعاطف مع القضية الفلسطينية، حتى وقت قريب، كبيراً إلى حدّ ما في مصر، وكان الكثير من المصريين ينظرون إلى غزة باعتبارها قضية إنسانية ملحّة وضاغطة. ومع ذلك، بدأت وسائل الإعلام المصرية بعد إطاحة مرسي، بتصوير العلاقات التاريخية بين حماس والإخوان باعتبارها شرّيرة. وفي إطار حملة تهدف إلى تشويه سمعة الإخوان، عرضت وسائل الإعلام الرسمية المصرية تقارير هستيرية تقول إن مرسي وافق على توطين الفلسطينيين في سيناء المصرية، وإنه هرّب فلسطينيين لشنّ حملات إرهابية في مصر، لابل قالت إنه سلَّم أراضٍ مصرية لحماس.
وبينما قد تكون هذه المزاعم موضع سخرية على الصعيد الدولي، إلا أن الكثير من المصريين تقبلوها كحقيقة واقعة. وهذا أدّى إلى وضع بات الفلسطينيون يشعرون فيه بأنهم ليسوا موضع ترحيب في مصر ويواجهون قيوداً أكثر صرامة في السفر إليها أو العبور منها إلى بلدان أخرى.
إضافة إلى ذلك، بدأ نظام مابعد مرسي بفرض قيود على حركة البضائع والأشخاص عبر الحدود بين مصر وغزة بحماسة غير مسبوقة، بما في ذلك محاولة تدمير نظام الأنفاق الذي كان حتى نظام مبارك يغضّ الطرف عنه. أما في غزة، فقد أطاح هذا التحوّل حالةً من التحسّن المطّرد في الأوضاع الاقتصادية تعود إلى سنوات عدة. وأوقع هذا التحوّل الحكومة التي تسيطر عليها حماس في أزمة مالية حادّة، حيث كانت تحصل على الكثير من إيراداتها من التجارة غير المشروعة عبر الأنفاق.
أدّت هذه الصدمة التي أصابت غزة، والشعور بالأمان الذي اعترى السلطة الفلسطينية التي يقودها العلمانيون وهي ترى الإسلاميين في القاهرة يسقطون، إلى تدهور فرص واحتمالات رأب الصدع الذي طال أمده في النظام السياسي الفلسطيني. إذ يبدو أن قيادة حماس قد قرّرت التمسّك بما أنجزته في غزة بشكل أكبر حزماً، وليس ثمّة معارضة فعّالة لهذا التوجّه. صحيح أنه جرت محاولة من جانب بعض سكان غزة لمحاكاة حركة تمرّد المصرية، لكنها فشلت. وفي السلطة الفلسطينية، يبدو أن القيادة وافقت على المدى القصير، ولكن بشيء من الفتور، على التعاون مع عملية السلام التي ترعاها الولايات المتحدة والتي تجعل أي تواصل مع حماس أمراً غير محتمل.
لاتزال هناك مساحة سياسية ضئيلة أمام المعارضة، في كل من غزة والضفة الغربية، كي تعمل على تنظيم أمورها، لكن ليس ثمّة عملية ديمقراطية يمكن للفلسطينيين من خلالها السعي وراء خيارات جديدة أو الضغط على قادتهم لحلّ خلافاتهم.
في سورية، زاد عزل مرسي من حدّة المواجهات بين المتمرّدين الذين يقاتلون نظام الرئيس بشار الأسد. فقد أطلق عزله العنان لموجة من الإحباط الإسلامي، حيث بدأ الأفراد، ومعهم الجماعات التي كانت قبلت في السابق فكرة الديمقراطية، يدعون بدل ذلك إلى إقامة دولة إسلامية. وقد لاحظ أحد المقاتلين: "سواء كنا نؤيد الإخوان المسلمين في سورية أم لا، فقد تقبل الكثير من المتمرّدين الإسلاميين فكرة أننا قد نضطرّ إلى العمل في إطار دولة مدنية. أما الآن، فيبدو واضحاً أن القوى العالمية وحلفاءها في المنطقة يستهدفون الإسلام أولاً وقبل كل شيء".
كما تزايدت حدّة الاستقطاب في صفوف جماعات المتمردين الإسلاميين بين من يحظون برعاية من المملكة العربية السعودية وأولئك الذين تموّلهم قطر، حيث أصبحت السعودية أكثر ثقة بنفسها بعد عزل مرسي. بدأت الرياض تضغط كي يتم انتخاب أحمد الجربا، وهو سياسي سوري له علاقات وثيقة مع السعودية، رئيساً لجماعة المعارضة السورية الرئيسة في المنفى، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية.
اضطرّت حركة الإخوان المسلمين السورية، التي عارضت في البداية انتخاب الجربا، إلى إعادة النظر في تحالفاتها الإقليمية نتيجة للانقلاب ضد مرسي المدعوم من الإخوان الذي لم يتَبَنَّ، على أي حال، قضية الحركة في وقت مبكر أو بفعالية كما كانت تأمل. وعندما رأت صعود الدور السعودي في المنطقة (في مقابل الدور القطري)، تراجعت جماعة الإخوان السورية عن معارضتها السابقة ووافقت في أوائل العام 2014 على انتخاب الجربا.
في هذه الأثناء، أصبحت الحكومة المصرية معادية للاجئين السوريين وأقلّ تعاطفاً مع المعارضة السورية التي اعتبرت أنها ترتبط بمرسي والإخوان المسلمين. وقد فرضت مصر قيوداً شديدة على دخول اللاجئين الجدد، وقامت بترحيل بعضهم إلى سورية، على الرغم من استمرار الصراع.
وقد شهدت الفترة التي أعقبت الانقلاب في مصر مزيداً من التشرذم في أوساط الطائفة السنّية في لبنان، والتي كانت قد تأثرت سلباً بسبب اتّساع نطاق الصراع الدائر في سورية. وقد تدهورت العلاقات بين الجهات الفاعلة الرئيسة في الطائفة بشكل حادّ بعد أن أشاد تيار المستقبل، أكبر حزب في الائتلاف الحاكم في البلاد بالانقلاب وأدانته الجماعة الإسلامية التي تمثّل الفرع اللبناني من جماعة الإخوان المسلمين.
إضافة إلى ذلك، بدأ الإسلاميون الأكثر تطرّفاً من جماعة الإخوان باللجوء إلى العمل السري خوفاً من حملة عسكرية على أنشطتهم تشبه تلك التي حدثت في مصر. وهم يعكفون على تشكيل شبكة من الجهات الفاعلة غير المنظّمة التي توحّدت بفعل خوفها من الدولة اللبنانية ومؤسّساتها - ومعارضتها لها - مثل الجيش، وكذلك من ساسة تيار المستقبل الذين كانوا حلفاءهم في العادة.حقّقت عملية الإصلاح المتوقّفة منذ أمد طويل في الأردن تقدّماً متواضعاً نتيجة الضغوط المحلية التي نجمت عن الانتفاضات العربية في العام 2011 ، إلا أن ذلك التقدم تباطأ بعد عزل مرسي.
وبطبيعة الحال، يبدو من الصعب على الحكومة الأردنية، التي تواجه حركة الإخوان المسلمين المعارضة، أن تخفي مشاعر الغبطة التي تتملّكها إزاء سقوط الإسلاميين. فقد كان العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني أول رئيس دولة يزور مصر بعد الانقلاب. ومنذ إطاحة مرسي، تشنُّ الصحافة التي تسيطر عليها الحكومة حملة مستمرة ضد الإخوان المسلمين، سواء في الأردن أو في الخارج. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2013 تم تغيير مجلس الأعيان، الذي يعيّن الملك أعضاءه، وتهيمن عليه الآن عناصر محافظة مناهضة للإصلاحات، حتى من دون وجود العدد الرمزي من الإسلاميين الذين كانوا موجودين في المجالس السابقة. ومع ذلك، لم يستنسخ الأردن القرار المصري بإعلان جماعة الإخوان منظمة إرهابية غير مشروعة، على الرغم من تعالي بعض الأصوات والدعوات للقيام بذلك، لأن من شأن هذا أن يشكّل قطيعة صارخة مع تسامح النظام الملكي التاريخي مع الجماعة.
ومع ذلك، يبدو أن جماعة الإخوان المسلمين خسرت بعض التأييد الشعبي في الأردن بسبب الأوضاع في سورية ومصر. فقد أقام العديد من الأردنيين صلة ذهنية بين الجماعة وبين الميليشيات الأكثر راديكالية وعنفاً التابعة لتنظيم القاعدة في الحرب الأهلية في سورية. وفي ظل وجود أكثر من 600 ألف لاجئ سوري في الأردن وانتشار الاضطرابات في مصر، لايريد معظم الأردنيين لبلدهم أن يواجه مصير جيرانهم نفسه. وقد وضعت بعض العناصر في جماعة الإخوان، معظمهم من الأردنيين شرق النهر، مبادرة جديدة لإطلاق وإبراز رؤية معتدلة واستشرافية لحركة سياسية أكثر شمولاً، غير أن الأعضاء الأكثر تشدّداً، من أصل فلسطيني في الأغلب، رفضوا هذه الفكرة. وبالتالي فإن هذا التطور يهدّد بتقسيم الحركة وفقاً لأسس وطنية.
الخليج: المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر
أدّى سقوط مرسي إلى حدوث تحوّل شبه زلزالي في سياسة المملكة العربية السعودية تجاه مصر، وأسفرت عن ضخّ 12 مليار دولار من إلى الحكومة الجديدة المدعومة من السيسي شاركت في تقديمها، إلى جانب السعودية، كل الكويت والإمارات العربية المتحدة.
محليّاً، قلّل سقوط مرسي في البداية من حجم المخاوف داخل الحكومة السعودية وفي أوساط حلفائها من رجال الدين من أن يؤدّي الصعود الإقليمي لجماعة الإخوان إلى تشجيع الإسلاميين في المملكة على معارضة الأسرة المالكة، بيد أنه اتّضح أن تلك المخاوف لم تكن في محلّها.
وعلى الرغم من أن جماعة الإخوان محظورة من الناحية القانونية في المملكة العربية السعودية، فإن لدى العديد من رجال الدين السلفيين البارزين مما يسمى تيار الصحوة معتقدات مذهبية مماثلة لمعتقدات جماعة الإخوان. فقد استنكر العديد من هذه الشخصيات، مثل رجل الدين سلمان العودة الذي يحظى بشعبية واسعة، حملة القمع في مصر، ودعوا إلى بدء مصالحة سياسية داخل البلاد بدلاً من الاستمرار في أعمال القمع، وهو مايشكّل خروجاً صارخاً عن الخط السعودي الرسمي.
وقد ذهب بعض رجال الدين إلى ماهو أبعد من ذلك عندما دعوا إلى تقديم مساعدات خارجية لأنصار مرسي. على سبيل المثال، قال عايض القرني، في تغريدة كتبها يوم 14 آب/أغسطس، عندما بدأت السلطات المصرية باستخدام القوة لفضّ اعتصام كبير مؤيد لمرسي، إنه يتعيّن على المسلمين في كل مكان أن "ينقذوا مصر" وأن يحولوا دون أن " تتّجه نحو حرب أهلية".
كما أن سلفيين بارزين آخرين مثل محسن العواجي وسعد البريك وناصر العمر استغلوا عزل مرسي للإشارة إلى إخفاقات الحكومة السعودية، محذّرين بشكل غير مباشر العائلة المالكة بأن تتجنّب المضيّ على المسار الذي اختاره الجيش المصري، على الرغم من أن بعض هذه الشخصيات خفّفت تعليقاتها، ملمّحة بصورة ضمنية إلى أن سوء إدارة مرسي وميله باتجاه إيران هما المسؤولان عن سقوطه. في منتصف شهر تموز/يوليو، اعتقل النظام السعودي محسن العواجي ووضع سلفياً بارزاً آخر، محمد العريفي، قيد الإقامة الجبرية بسبب دعمهما لمرسي. كما منعت السلطات أحد الخطباء في الرياض من التحدّث علناً بعد أن أدّت خطبته المناهضة للسيسي التي ألقاها في آب/غسطس إلى حدوث شجار بين الحضور.
شجّعت الحملة على مرسي وأنصاره في جماعة الإخوان على تسييس الخطاب الديني في المملكة، وهو ماكان السعودين يأملون في تجنّبه عندما كان الإخوان في السلطة. كما دفعت الحملة إلى الواجهة المعضلة التي لم تحلّ بعد والتي حدّدت على نحو متزايد طبيعة العلاقة بين الدولة وبين رجال الدين في المملكة العربية السعودية: مامدى الإشراف الذي يمكن أن تمارسه الحكومة، ويجب عليها أن تمارسه، على الخطب السلفية ونشاط وسائل الإعلام الاجتماعية؟
على غرار المملكة العربية السعودية، دعمت الإمارات العربية المتحدة بقوّة عزل الجيش المصري للرئيس مرسي، وشاركت في عملية ضخّ هائلة للأموال الخليجية إلى الحكومة الجديدة. وقد استخدمت الحكومة المصرية المساعدات الإماراتية لتمويل مايصل إلى مليارات الدولارات من الإنفاق التحفيزي، كما تساعد دولة الإمارات في تمويل صفقة أسلحة بقيمة ملياري دولار بين مصر وروسيا.وعلى عكس المملكة العربية السعودية، فإن لدى الإمارات العربية المتحدة فرعاً أكثر نشاطاً تابعاً لجماعة الإخوان، يتمثّل في منظمة المجتمع المدني المسماة "جمعية الإصلاح". وعلى مدى العامين الماضيين، جرى القبض على العشرات من أعضاء جمعية الإصلاح، وتم سجنهم بتهمة إثارة الفتنة والتجسّس. وفي 2 تموز/يوليو 2013، أي قبل يوم واحد من عزل مرسي، أصدرت محكمة أمن الدولة الإماراتية أحكاماً قاسية على أعضاء في دعوة الإصلاح ممن كانوا جزءاً مما تسمى إماراتي 94، وهي مجموعة من النشطاء المتّهمين بمحاولة قلب نظام الحكم. بالإضافة إلى ذلك، تم إلقاء القبض على وافدين مصريين بزعم أنهم يقدمون المساعدة إلى جمعية الإصلاح. وقد تحوّل سجن هؤلاء المصريين، بالإضافة إلى آخرين صدرت ضدهم أحكام لارتكابهم جرائم غير سياسية، إلى مصدر رئيس للتوتّر بين حكومة مرسي وأبو ظبي.
منذ بدء حملة القمع المصرية، استمرت وتيرة الاعتقالات وإصدار الأحكام في الإمارات العربية المتحدة بلا هوادة. من جانبها، لم تظهر جمعية الاصلاح مؤشرات تذكر على التراجع أو تغيير استراتيجيتها. بدلاً من ذلك، كثّفت الجمعية نقدها للحكومة الإماراتية من خلال الموازاة بين مايحدث في الإمارات ومايحدث في مصر. ففي الرابع من تموز/يوليو، على سبيل المثال، أشارت تدوينة على صفحة مجموعة الفيسبوك المسماة "مفارقة عجيبة" إلى أن أكثر من 50 من أعضاء جمعية الإصلاح يحاكمون بتهمة السعي لتنفيذ انقلاب في دولة الإمارات، في الوقت نفسه الذي تبارك الإمارات الانقلاب العسكري في مصر.
وبهدف تحقيق توازن بين هذا الموقف المناهض للحكومة والردّ على المزاعم التي تقول إنها تابعة لجماعة الإخوان المصرية، بذلت جمعية الإصلاح جهوداً كبيرة لإبراز نواياها الوطنية الصادقة. فقد هنّأ بيان صدر في مطلع كانون الأول/ديسمبر 2013 على الموقع الإلكتروني للجمعية شعب وقيادة دولة الإمارات في الذكرى الثانية والأربعين لتأسيس دولة الإمارات.
شهدت الكويت أيضاً تفاقم حدّة التوتّر بين جماعة الإخوان وبين معارضيها نتيجة للتطوّرات التي جرت في مصر، على الرغم من أن الأحداث الأخرى في الحريق المستمر في منطقة الشرق الأوسط (وخاصة الحرب في سورية والاضطرابات في البحرين) قد زادت بالفعل حدّة التوتّرات السياسية في البلاد.
بعد إطاحة مرسي، انضمت الكويت إلى المملكة العربية السعودية والإمارات في تقديم دعم دبلوماسي ومالي كبير للحكومة المصرية المؤقتة. وقد أعربت جماعة الإخوان الكويتية، وهي أحد الأطراف المشاركة في المعارضة السياسية في البلاد، عن غضبها من تصرّفات الجيش المصري وانتقدت الحكومة الكويتية صراحة بسبب دعمها للنظام المصري الجديد. وقال نائب إسلامي سابق إن الرئيس المصري المؤقّت عدلي منصور رئيس غير شرعي جاء إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري ضد حاكم عربي منتخب، واستقباله في الكويت يفتح الباب أمام دعم الانقلابات العسكرية ضد الحكومات الشرعية".
في الوقت نفسه، صعّد معارضو الإخوان المسلمين خطابهم، وربما استشعروا أن هناك فرصة سانحة لتدمير الحركة سياسياً. واتّهم الساسة المعارضون لجماعة الإخوان ووسائل الإعلام الكويتية الجماعة بأنها تابعة إلى المصريين وتهدّد الدولة وتنخرط في ممارسات فاسدة. ووفقاً لما يقوله عضو في البرلمان مناهض للإخوان، فإن الجماعة "تسعى إلى إسقاط الدول العربية وشعوبها". واتّهم عضو أخرى التنظيم بالانخراط في "الإرهاب" و"غسيل الأموال".
لابل كانت حركة الإخوان هدفاً لحملة تطهير محدودة في الوزارات الحكومية، على الرغم من أن من المرجّح أن يكون لهذه الحملة صلة بدور الإخوان في المعارضة أكثر من أي حملة متواصلة من جانب الحكومة لاقتلاعها من الحياة العامة. وفي حين أن جماعة الإخوان المسلمين في الكويت ستبقى طرفاً مشاركا نشطاً في المجتمع الكويتي في المستقبل، فقد ساهمت الأحداث في مصر بشكل واضح في ظهور لهجة أكثر قسوة وعدائية لها في الحياة السياسية في البلاد.شكّل الانقلاب المصري مأزقاً لدولة قطر، التي كانت تدعم إدارة مرسي بقوة. والواقع أن هذا المأزق جاء أيضاً في لحظة حرجة، حيث تنازل الأمير حمد بن خليفة آل ثاني عن الحكم وسلم مقاليد السلطة لابنه، تميم بن حمد آل ثاني، قبل مايزيد قليلاً عن أسبوع من الانقلاب. وعلى الرغم من أن الأمير الجديد استجاب مبدئياً للأحداث في مصر بتهنئة الرئيس المصري المؤقت، وهو ما أثار تكهنات بأنه يبتعد عن سياسات والده المؤيّدة لجماعة الإخوان، فإن العلاقات بين الدوحة والقاهرة توتّرت بشكل ملحوظ منذ تموز/يوليو الماضي.
تبدي الحكومة المصرية استياءً إزاء استمرار رعاية قطر لشبكة أخبار قناة الجزيرة، التي لاتزال تنتقد الانقلاب بشدّة، وقد اعتقلت عدداً من الصحافيين العاملين لحسابها على سبيل الانتقام. في الوقت نفسه، أعربت قطر عن قلقها إزاء حملة القمع التي تشنّها السلطات المصرية على جماعة الإخوان المسلمين، وقدّمت ملاذاً للإسلاميين الهاربين من مصر. وفي حين تبنّت قطر نهجاً أقلّ انتقاداً وأكثر تصالحاً تجاه مصر مما فعلت تركيا، وهي حليف آخر لمرسي، لاتزال المشاعر المعادية لقطر قوية في البلاد، حيث تبنّت الدوحة اتخاذ وضعية خفيضة لأن نفوذها في مصر قد تضاءل.
تركيا
شكّل عزل مرسي ضربة قوية لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا ورئيس الوزراء، رجب طيب أردوغان. إذ ترتبط الحكومة في أنقرة بعلاقة شخصية وإيديولوجية وثيقة مع مرسي وجماعة الإخوان المصرية قائمة على أسس عميقة لحزبين إسلاميين محافظين نجحا في الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع. كما كانت العلاقة بين مصر وتركيا، والتي وصفها وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بأنها "محور جديد للديمقراطية"، عنصراً هاماً من حملة المشاركة الإقليمية التركية بعد الربيع العربي. وقد تضمّنت هذه المشاركة، التي حدّدتها المصالح السنّية والطائفية على نحو متزايد، تقديم تركيا دعماً قوياً للإخوان المسلمين باعتبارهم الطرف الفاعل الأساسي في المعارضة السورية، وإبرامها شراكة مع قطر والمملكة العربية السعودية ضد نظام الأسد.
كانت إطاحة مرسي وفشل التجربة المصرية مع الإسلام السياسي، من جوانب عديدة، بداية النهاية لهذه الحقبة في السياسة الإقليمية التركية. وفي ظل دعم الحكومات التي يقودها السنّة في الأردن والمملكة العربية السعودية ودول الخليج للحكومة المصرية الجديدة، كانت تركيا هي الوحيدة التي اتّخذت موقفاً صريحاً وقوياً في دعم حكومة مرسي المنتخب في مواجهة الجيش. وقد أدّى هذا الخلاف إلى إضعاف سياسة أنقرة المضطربة بالفعل تجاه سورية وأوجد خلافاً جديداً بين أنقرة والرياض بشأن الأطراف التي ينبغي دعمها في المعارضة السورية. كما أضعف تنازل أمير قطر عن الحكم في حزيران/يونيو 2013 آفاق التعاون بين تركيا وقطر، التي كانت حكومتها تدعم مرسي أيضاً. وقد أشار أمير قطر الجديد بعد الانقلاب في مصر إلى أنه سيتبنّى نهجاً أقلّ إيديولوجية من نهج والده تجاه المنطقة، وتجنّب تبنّي موقف تركيا الانتقادي للغاية. وبحلول أيلول/سبتمبر 2013، أصبحت أنقرة تعيش حالة عزلة متزايدة ولم يبق لها سوى اثنين من الحلفاء الإقليميين الرئيسيين، هما حكومة حماس وحكومة إقليم كردستان في العراق.
في أواخر العام 2013 بدأت سياسات أنقرة بالابتعاد عن اللهجة الإيديولوجية الدينية التي تبنّتها في العام 2012 واتّجهت إلى اتّباع مقاربة قائمة على المصالح أكثر من أي شيء آخر. فعندما زار داود أوغلو واشنطن في تشرين الثاني/نوفمبر، ألمح الى استعداد أكبر من جانب تركيا لدعم الجهود غير العسكرية لمعالجة الأزمة في سورية وتخفيف إصرار أنقرة على ضرورة رحيل الأسد. وشهدت الأشهر التالية عملية إعادة تعديل مستمرة لسياسات أنقرة الإقليمية التي تهدف إلى تحسين العلاقات مع دول الجوار في طهران وبغداد وموسكو.
توتّرات متصاعدة وتحالفات متبدّلة
زاد الانقلاب في مصر والحملة التي استهدفت جماعة الإخوان المسلمين من حدّة التوتر بين الحركات السياسية الإسلامية والعلمانية وبين الحكومات وجماعات المعارضة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
فقد تبنّى الإسلاميون الذين وصلوا إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، وكانوا بالتالي مسؤولين أمام الناخبين (ولاسيما في تونس والمغرب)، مقاربة عملية تجاه البيئة الجديدة، فقلّلوا من طموحاتهم بصورة مؤقّتة على الأقلّ وأظهروا استعداداً أكبر لإبرام تسويات بشأن بعض القضايا.
أما الإسلاميون المعارضون، أو الذين يمسكون بزمام السلطة لكنهم ليسوا عرضة إلى المساءلة من خلال الانتخابات، مثل حركة حماس، فقد أصبحوا ميّالين إلى تبنّي موقف أكثر دفاعاً وتحدّياً.
وتمثّل ردّ فعل العلمانيين، بجميع أطيافهم وفئاتهم، على التطوّرات في مصر، سواء في الحكم أو في المعارضة، بأن أصبحوا أكثر ثقة بالنفس وأقلّ استعداداً لإبرام تسويات، على الرغم من أنهم لم ينجحوا حتى الآن في إقصاء الإسلاميين من السلطة في أي مكان آخر باستثناء مصر.
كما خلط الانقلاب في مصر تماماً التحالفات الإقليمية للبلاد. فقد كانت علاقات المملكة العربية السعودية وحلفائها (الإمارات والكويت والأردن)، وكذلك إسرائيل، فاترة مع حكومة مرسي، ولكن هذه الدول تبنّت النظام الجديد بقيادة الجيش في القاهرة. ومن جانبها نحت قطر، التي كانت قد استثمرت بكثافة في رئاسة مرسي، إلى اتخاذ وضعية خفيضة. أما الدول التي يتولّى فيها الإسلاميون السلطة، مثل تركيا وتونس، فقد انتقدت الانقلاب وبقيت علاقاتها مع الحكومة الجديدة متوتّرة. ولم يَنْأَ النظام المدعوم من الجيش في مصر بنفسه عن حلفاء مرسي الإسلاميين السابقين في فلسطين وسورية وحسب، بل وصل به الأمر أيضاً إلى حدّ اتّهام الرئيس المخلوع بالتآمر مع مثل هذه الجماعات لزعزعة استقرار مصر.
إن الزمن وحده كفيل بأن يظهر لنا ما إذا كان الدرس النهائي الذي استوعبه الإسلاميون والعلمانيون مما حدث في مصر يتمثّل في إبرام التسويات والتوصّل إلى حلّ وسط، طالما أن ذلك لايزال ممكناً، أو الضغط باتجاه تحقيق انتصار شامل على خصومهم لتجنّب التغييرات التي سوف تترتّب على ذلك. وفي نهاية المطاف، قد تعتمد النتائج على ما إذا كانت القيادة المصرية الجديدة ستنجح في إعادة الأمن إلى البلاد أو تدفعها نحو حالة مستمرّة من عدم الاستقرار.
سكوت وليامسون هو زميل مبتدئ في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط. ديفيد بيشوب، هو أيضاً زميل مبتدئ في برنامج الشرق الأوسط وقد قدم مساعدة قيّمة في مجال البحوث.